لماذا العباسة ؟ …..رؤية الناقد و الباحث القدير سمير زيان في ديوان (العباسة) للشاعر الكبير محمود حسن


لماذا العباسة ؟ …..رؤية الناقد و الباحث القدير سمير زيان في ديوان (العباسة) للشاعر الكبير محمود حسن

لماذا “العبّاسة”؟
لستُ معنيًا بإعادة سرد التاريخ، بل معنيّ بكشف ما يُخفيه من وجعٍ إنساني ومعنًى رمزيّ يتجاوز الزمان والمكان. وحين وقعتُ على ديوان “العبّاسة” للشاعر محمود حسن عبد التواب، وجدتُ فيه مرآة نادرة، لا تعكس وجه العبّاسة وحدها، بل وجه الإنسان حين يُقصى، ويُصمت، ويُغتال رمزيًا باسم الطهر والسلطة والقداسة.
أكتب عن “العبّاسة” لأنها ليست امرأة من الماضي، بل سؤالٌ معلّق في حاضرنا: من الذي يقتل، ولماذا يصمت الجميع؟
ولأن الشعر هنا لا يُطرّز المديح، بل يفكك الأسطورة، ويعيد للضحايا أسماءهم المسروقة.
لهذا بدأت هذه القراءة… علّها توقظ فينا شيئًا مما نُريد نسيانه.
“دراسة نقدية”
عنوان الديوان: العبّاسة
الشاعر: محمود حسن عبد التواب
الناشر: دار طيوف
سنة النشر: 2018
النوع الأدبي: شعر عربي حديث – رمزي – فلسفي – تأريخي
تمهيد تأويلي: بين المرأة والرمز والتاريخ
يحمل عنوان الديوان “العبّاسة” دلالة ثقيلة، ليس من حيث مرجعيته التاريخية فحسب، بل من حيث رمزيته الثقافية. فالعبّاسة لا تحضر بوصفها شخصية عباسية فحسب، بل بوصفها تيمةً شعرية تحوّلت إلى استعارة كبرى للإنسان حين يُمحى، وللأنوثة حين تُقمع، وللحقيقة حين تُغتال تحت وطأة المقدّس والمُسيّس.
أولًا: المعمار الفني للنصوص
تنتمي القصائد إلى القصيدة الحرة ذات النفس التأملي العميق.
يعتمد الشاعر على موسيقى داخلية تنبع من التوتر الدلالي أكثر من الوزن الظاهري.
المشاهد الشعرية تتخذ هيئة لقطات سينمائية مركزة، حيث تتكرر رموز كـ”اللبن”، “السكين”، “الرداء الأسود”، مشكّلة سردية بصرية مكثفة.
الرمز يُستخدم بوصفه طاقة تأويل، لا إشارة مغلقة، مما يمنح النصوص طبقات متعددة من الفهم.
ثانيًا: الموضوعات الكبرى في الديوان
- القتل المؤسِّس
يعود الشاعر إلى قصة قابيل وهابيل، ليؤكّد أن الجريمة الأولى لم تكن نهاية، بل بداية لمسلسل دمويّ ظلّ يتكرر بأقنعة شتى.
- ازدواجية المقدّس
“القاتل شيخان”… في هذه العبارة تتكثف إدانة الشاعر لتواطؤ الدين والسياسة، حيث تُرتكب الجرائم لا باسم الأعداء، بل باسم الإخوة.
- الأنوثة المغيّبة
ليست العبّاسة إلا قناعًا شعريًا لامرأة أعظم، هي المعرفة المقموعَة، والصوت المسكوت عنه في سجلات السلطة.
- الهوية المنقسمة
لا فرق بين عربيّ أو فارسيّ، رومانيّ أو هنديّ، فالكل قاتل ومقتول في لعبة التاريخ… والدم هو اللغة المشتركة.
ثالثًا: الشخصيات والرموز المحورية
العبّاسة: تمثّل الذات المقموعة، والقداسة المغيّبة.
هارون: رمز للحاكم الذي يصمت حين يجب أن ينطق، ويدير وجهه عن الحقيقة.
الغراب والطاووس: رمزان ساخران عن زيف التجميل بعد الجريمة، وتحويل المذبحة إلى عرضٍ احتفالي.
الرضيعان: استعارة عن الأخوّة حين تنقلب خيانة، والحنان حين يتحول إلى ذبح.
رابعًا: الأسلوب واللغة
اللغة قائمة على الانزياح الدلالي والتشبيهات المركبة، مثل:
“سكين ساخن في القلب”
“ثديان نازفان في وجه القاتل”
لا يقدّم الشاعر أحكامًا، بل يفتح مرآةً شعرية لكل قارئ كي يسأل:
“هل كنت أنت من ذبح؟”
خامسًا: القصيدة المحورية – “مشهد الذبح الأبدي”
تعد هذه القصيدة نواة الديوان، حيث يُنكر الشاعر تدخّله في الحكاية، وكأنه ناقل، لكنه سرعان ما يكشف القناع:
الذبح مستمر، والقاتل داخليّ لا خارجيّ، والسكين في يد من نحب.
الرموز الرئيسة:
الأم ورضيعان: البراءة الأولى قبل التلوّث.
الغراب والطاووس: التزيين بعد الجريمة.
الشيخان: الدين والسياسة حين يتّحدان في طقس الدم.

الشاعر محمود حسن
سادسًا: فهرسة نقدية مختصرة لقصائد الديوان
عنوان القصيدة الموضوع المركزي ملاحظات نقدية
الافتتاحية الذبح الأول – التمزّق أقوى نصوص الديوان وأكثرها تمثيلًا للثيمة العامة
العبّاسة الأنوثة المطموسة – الرمز المخفي قراءة رمزية للمرأة كجسد مقدّس تم قمعه عمدًا
الحاكم والأخ السلطة والأخوّة تفكيك ثنائية الحاكم/الإنسان وإدانة القربان العاطفي
الغراب والطاووس تزييف الجريمة نقد ساخر للمبررات التي تزيّن فعل الذبح
هارون وصمت الأنبياء العجز الروحي أمام القتل رمزية للصمت الأخلاقي إزاء الظلم
ثديان وسكين ساخن الأمومة مقابل العنف مفارقة موجعة بين الحنان والمذبحة
الشعوب والدماء تكرار المجازر تهكم مرير على الذاكرة الجمعية المنسية
القاتل شيخان النفاق الديني والسياسي تلميح جريء إلى التحالف القاتل بين منبر وسيف
خاتمة:
الشعر كمرآة للذبح والمقاومة
ديوان “العبّاسة” ليس مرثية لامرأة من الماضي، بل مرافعة شعرية ضد حاضرٍ لا يكفّ عن سفك الدم، وتبريره بالجمال أو بالإيمان.
إنه نص مواجهة؛ مواجهة مع الذات، مع التاريخ، ومع القيم حين تتحوّل إلى أقنعة.
يكتب الشاعر لا ليحكي، بل ليحاكم.
ويتركنا أمام مرآة مفتوحة نسأل فيها أنفسنا:
هل كنّا حقًا الأبرياء؟
أم كنّا الغراب والطاووس… القاتل والمبرّر معًا؟
عن الشاعر: محمود حسن عبد التواب
شاعر مصري معاصر، يتميّز بكتابته الرمزية الفلسفية، حيث يستثمر التاريخ والأسطورة والدين كأدوات نقد وتأمل.
في ديوانه “العبّاسة”، لا يستعيد الماضي إلا ليُضيء الحاضر، ولا يستخدم الرمز إلا ليفضح القناع.
نُشرت هذه الدراسة ضمن مشروع “قراءات نقدية حديثة – 2025”
جميع الحقوق محفوظة للناقد:
سمير ابراهيم زيان

الناقد سمير زيان
توصية ختامية:
إنني أوصي – وبشدة – بضرورة تحويل قصيدة “العبّاسة” إلى عمل درامي تلفزيوني في مسلسل من ثلاثين حلقة على الأقل، يعيد إلى الأجيال ذاكرة التاريخ من زاوية فنية وإنسانية، تسائل لا تُلقّن، وتستنطق الرماد بدلًا من تكرار المرويات.
كما أرشّح هذا العمل المميز للترجمة إلى لغات أجنبية حيّة، على يد متخصصين في الترجمة الأدبية العالمية، ليكون مرجعًا غنيًا يقدّم للثقافات الأخرى صورة عميقة عن رؤيتنا للتاريخ، وعن الإنسان في صراعه بين الطهر والسلطة، وبين الذاكرة والنسيان.
سمير إبراهيم زيّان
ناقد أدبي وباحث مستقل في الرموز الثقافية والفلسفية
مايو 2025