عيد الـ….. ـمال …بقلم / ماهر عطاء

أتذكر جيداً ملامح عملي الأول وأنا في الصف التاسع “ثالث اعدادي”.. كنت حينها ، في معمل لتكرير الملح ..
كان الليل هو الذي يرافقني عند العودة لمنزلنا ..
اعتمدت كثيراً على ماهر وكنت أشتري لوازم المدرسة من الدفاتر والأدوات المكتبية لي ولأشقائي ..
لقد كبرت مبكراً ..
لم أعد وقتها أطلب من والدي قيمة ملابس العيد لأنني كنت قد كبرت وقتها..
حين كان يتنفس الصبح أتنفس معه وبعمق .. وألفُ راحة يديّ الخشنتين بأوراق الكتب التي كانت دواؤها.. وفي المساء أقوم بتعبئة الملح في الأكياس ولكن ذراته كانت تلتصق بوجهي أما تلك الشاردة فلا زال طعمها يتأرجح في فمي ..
لا زلت أتذكر ملح “نسيم” الذي غزا المحافظة يومها .. وكنا نعمل كخلية نحل حتى نرفد السوق ..
كنت أتقرفص فوق ذرات الملح ..
لقد تذوقت ملح الحياة مبكراً
تخيل ملح الحياة اجتمع مع ملح الواقع..
وفوق هذا دفاتر أطهوها بالملح لأتذوق دروس الحياة الصعبة ..

أول عمل علمني أني اجتزت خط المسؤولية قليلاً ..
علمني أن أعتمد على ذاتي ..
أن أتصبب عرقاً لقاء كسب حلال ..

هذا هو عيد العمال ولا يعرف والدي إلى الآن أن صديقه الذي عملت عنده ميكانيكي ذات إجازة لم يعطني أي مبلغ حتى اللحظة .. لم يلمحني والدي بملابسي التي اعتلاها السواد .. لم يشتم رائحة العطر الذي فغمتني رائحته ولكنني كنت أتصنع أنه يناسب سني وانا الذي لم أعرف العطر وقتها إلا في المحلات
الآن عرفت لماذا لا تستقبل الميكانيكي ومن تشققت أسطح أيديهم ولا تستقبل البسطاء جداً حتى في عيد العمال لأنهم الشريحة الوحيدة التي لا تبحث عن حنان معبأ في زجاجة..

أتذكر أن عيد العمال وقتها لم يكافئني حتى بملابس جديدة بدل تلك التي كانت فريسة عمل يكبرني سناً .. والتي كنت قد اشتريتها بعد أن تصببت عرقاً من عدة أعمال ..

لقد كانت المكاتب الحكومية والجهات الخاصة تحتفل بعيد عمالهم.. مهتمون فقط بمن هم خلف المكاتب ببدلاتهم الأنيقة وربطات العنق الملونة..

أما أنا فقرأت عن هذا العيد في المنهج ..
لم أكرم إلى اللحظة بهذا التاريخ ولم أظفر بشهادة شكر أعترف فيها بهذا اليوم ..
أسمع عنه وأقرأ أيضاً لكنني لم أشاهده إلا في الأجندات والتقاويم كبرت ولم ألتقِ به أبداً ..
كبرت وتوظفت ولم أصافحه أو حتى أتعرف على ملامحه..

اليوم وفي عيد العمال
وفي وقت متأخر من هذا الليل
أيقنت أن عيد العمال هو إجازة معلقة في حائط منزلك ..
وأن العمال لم يزدهم العيد إلا أعمالاً ..

عذراً اليوم سيكون ثقيلاً جداً على جثث أولئك المطليين في رصيف الحراج..
وسيجلد بسياطه تلك الأم التي تقف أمام صيدلية في الشارع العام لا تمتلك ما ترقع به روشتة الطبيب..
اليوم سينصهر الموظف في عيون أطفاله..
اليوم هناك من يقف بعينيه على دين لم يرممه منذ فترة..

اليوم في عيد العمال وصلني كشف الحساب من البقال وأخاف أن افتحه فيكون يومي مبلولاً بالخوف..
واليوم أيضاً وصلتني فاتورة الكهرباء وفاتورة الماء الذي تنتظره أمي مرة كل أسبوع لتسقي الخزانات وترويها حتى لا تثقب جيوبنا أكثر..

واليوم أيضاً كثير من المدججين بالانتظار يترقب نصف راتب فقط..

اليوم عيد العمال وأنا أبحث عن عمل براتب أستطيع من خلاله أن أرمم به بطون أطفالي..

اليوم أستطيع القول للأول من مايو :
لقد كان طعم الملح لذيذاً جداً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى