تأملات الناقد ياسر عبد الرحمن في قصة “زاده الخيال ” للأديب محمد كمال سالم


تأملات الناقد ياسر عبد الرحمن في قصة “زاده الخيال ” للأديب محمد كمال سالم
حين تستكمل الروح رسالة الجسد
في قصة (زاده الخيال ) للكاتب محمد كمال سالم
بقلم / ياسر عبد الرحمن

الأمر التقليدي، هو أن يتم دمج ازمنة متعددة بالنص الأدبي للتحرك بالحدث بين الماضي والحاضر لنصنع تكاملا زمنيا كاشفا عن مشهد بانورامي للحدث.
أما ما يعتبر غير تقليدي، هو دمج أزمنة من عوالم مختلفة، ليصنع الكاتب واقعة انصهار يذوب فيها الوقت في نفس اللحظة الزمنية نتيجة استخدام زمن يخص الجسد وزمن يخص الروح، في لحظة احتضار لم تكتمل لبطل القصة.
وتبدأ القصة بخطوات رجل هرم جوار نهر النيل يتسامر مع النهر في حب ويشاركه افراحه وانكساراته فتقع عينيه على ملامح شخص يشبه قائده القديم الصاغ بكريبقارب شراعي فيتذكر أيام خدمته في البحرية على ضفاف هذا النهر فينادى عليه ويحاول أن يتجه نحوه فتتعثر قدمه ليسقط في النيل فاقدا الوعي. لتبدأ رحلة الروح التي تشبه لحظه إسقاط نجمي أو احتضار مؤقت تنفصل الروح فيه عن الجسد،فينتشله من النهر الذي سقط فيه توا أيادي رجال من عصر مصرايم ابن حام ابن نوح، ويعرف انهم في الطريق الى أعالي النيل، لتعبيد وهندسة مجرى النهر للحفاظ على مياهه المقدسة لينتفع بها الناس، وهم رجال أحبو النهر وخدموه ودافعوا عنه طوال حياتهم، فكانت جنة الخلد هي نهاية طريقهم واستحقاقهم الطبيعي، مقابل سعيهم للحفاظ على نهر النيل والدفاع عنه، فكأن روح البطل وجدت الصحبة التي تنتمى اليها وتحركت معا لتستكمل رسالتها في محبة نهر النيل، ورغم أن الرحلة استغرقت أيام وليالي، إلا ان الزمن الحقيقي في الواقع هو ثوان معدودة،تتمثل في لحظة سقوطه في الماء وفقدانه للوعى, لتخرج الروح في رحلتها الزماكانية (خارج حدود الزمان والمكان) مع المصريين الأوائل الذين احبو النيل، ولكن اثناء تسلق البطل (بوصفه روح ) لجبل القمر متجها مع رفاقه الى جنة الخلد تتعثر قدمهليسقط في النيل، لتنتشله يد ابن الرائد بكرى وينعشه ليعود للحياة وتعود الروح للجسد، فيدرك القارئ ان كل الأحداث التي عاشها البطل في مصر القديمة بين المدافعين القدماء عن نهر النيل، واساطير الفيضان والبركة حابى وخنوم وجبل القمر والنجم الأسطع سيريوس، كلها انحصرت في زمن صفري هو زمن الروح، بين لحظة سقوطه في النيل ولحظة إنقاذه في ثوان معدودة، فخلال هذه الفترة المحدودة جدا ارتحلت الروح الى عالم آخر، في رحلة لم تكتمل ولو اكتملت، ووصل البطل الى جنة الخلد مع رفاقه الراحلين، معناها ان موته اكتمل، وانفصلت الروح تماما عن الحياه،لكن الكاتب أراد فقط للبطل ان يستمتع فقط بجمال الرحلة ، وذلك كمكافأة و تقديرا له على احساسه الراقي تجاه نهر النيل ومجهوده في الدفاع عنه لسنوات طويلة.
وقد ذكر بعض العلماء أن الأحلام تحدث في ثوانٍ قليلة، ومع ذلك يشعر النائم انه عاش فيها أيام وليالي وهذا هو الفارق بين زمن الروح والجسد، فالثواني في زمن الروح قد تكون أيام في زمن الجسد المادي، والأيام قد تكون آلاف السنوات لأن زمن الروح خارج نطاق الزمن الشمسي الذي نعيشه. لذلك قد تلتقي أرواح الأموات والأحياء في المنام وتتحاور وتشعر بالحب والحنين بينهم، فالروح داخل الإنسان لها القدرة على التحرك خارج حيز الزمان والمكان ولقاء الذين رحلوا من عشرت أو آلافالسنين.
وقد نجح الكاتب في صناعة رحلة روحانية مدهشة، بين لحظات سقوط البطل في الماء، وإنقاذه بواسطة ابن قائده القديم، الذي رآه يتعثر ويسقط بالنيل فحضرمسرعا اليه، لنجد انه على مستوى الواقع البطل سقط في النيل مرة واحدة، ثم تم إنقاذه خلال ثوان، أما الإنقاذ الأول والسقوط الثاني، فكان أشبه لبوابة نجمية انفتحت لانطلاق الروح في رحلتها النورانية، والتي هي أجمل مساحة بالنص، ثم عودتها بمجرد انقاذ البطل من الغرق على مستوى الواقع.
وهذ التداخل الزمنى، نتج عنه مساحات من الحيرة والدهشة في وجدان القارئ،وبعض ملامح من الغموض الغير معتم، وكلها أدوات أضافت الى الفكرة تاج من الجمال والجلال والهيبة، وجعلت للنص مذاق مختلف يأخذك كقارئ في عالم غير تقليدي، يصعب وصفه بالخيال، فنحن أمام واقع من عالم آخر، اندمج في لحظةزمنية نادره مع واقع الحياة العادية، لذلك كان هناك تحفظ على عنوان القصة (زاده الخيال) فبدا انه عنوان مسرحي، لم يعبّر عن فكرة القصة بشكل جيد.
كما ظهر جليا هذا الحس المسرحي للكاتب، في تغيّر المشهد بحرفيه من قارب شراعي حديث بنهر النيل على متنه جنود للبحرية بزيهم المعروف، الى قارب بدائي،صُنع من البوص والحبال، وجنود يرتدون المئزر ليستروا نصفهم السفلى، فالمكان واحد هو نهر النيل ولكن في عصر مختلف وهو عصر المصريين الأوائل، لعل هذا الحس المسرحي أفاد الكاتب في صناعة المشهد وتغيره بهذه السرعة، كأن يبدل الديكور على المسرح بكل بساطة، وكأن المسرح هو نهر النيل ذاته، والواقع أن صناعة المشهد له بطولة مركزية في نجاح هذه الفكرة المختلفة جدا.
وفى النهاية (زاده الخيال) يمثل عنوان غير مميز، لنص مدهش وشديد الروعة والتميّز، يخطف قلب القارئ وعقله، ويأخذه في رحلة نورانية مع عشاق النيل على مر التاريخ.
” زادُه الخيال” بقلم الأديب محمد كمال سالم

بخطواتٍ وئيدةٍ, كأنها لحظاتُ وداعٍ, رحتُ أذرعُ الرصيفَ جيئةً وذهابا, كم من المرات تركتُ خلجاتي هنا عندك! أفراحي, إنكساراتي ودموعي, سِرا بيني وبينك, عند الأصيل, عند الغروب, وكثيرا ما شاركتك الطلّ, عقودٌ توالتْ حتى أصبحتُ هرمًا, أنا هنا مازلت معك, هل تذكر؟
يبدو أنه لستُ وحدي الذي اشتاقَ إليك, لا أصدق ما أرى, إنه قائدي (الصاغ بكري)
لا يمكن أن يشتبهَ عليّ, هو, شعرّه المصفف في وسامةٍ ورجولةٍ، خطواتُه القويةُ الوثابة, لا تسعني قدماي الواهنتان اللحاق به, أظنُه سيُدهَشُ حينَ يراني, إنُه يهبطُ نحوَ المرسَى النيلي, سأعدو حتي ألحقَ به, ركبَ قاربًا شراعيًا للتنزه, أصيحُ، أنادي عليه كي ينتظرني:
(رائد بكري)
يلتفتُ نحوي, أشرتُ إليه متبسما, أتجه نحوه مسرعا, حجرٌ التصقَ أسفلَ قدمي, حاولتُ أن أتماسكَ, ترنحتُ في الهواء, سقطتُ في الماء, ثقيلٌ ماءُ النيل, لا أستطيعُ أن أرفعَ رأسي من الماء, إني أغرقُ, لابد وأنَّ الصاغَ بكري سيسرعُ لنجدتي كما احتواني وأنا مجندٌ صغيرٌ في وحدتِه المقاتلة, حيث كنتُ أشعرُ بالغربةِ, والألمِ لفراقِ طفلي الصغير, كان صارما في التدريب, حتى إذا فرغنا, صرنا صديقين, وكان لي أخا أكبرَ.
أصبحتُ أمتليء بالماء, جحظتْ عيناي, ما عدت أحتملُ ضغطَ الماء, تملكني اليأسُ لابد أني ميتٌ, نطقت الشهادتين, وأسلمتُ روحي لله.
أيادٍ قوية تنتشلني من الماء , أنا نصفُ واعٍ, طرحوني علي وجهي, أفرغوا ما في جوفي من ماء, لكن كانت دهشتي لما أفقتُ!
هذا ليس القارب الذي غرقت عنده, هو بدائي, أظنُه صُنِع من البوصِ والحبال, ما هؤلاء الناس؟! إنهم عرايا إلا من مئزرٍ يسترُ نصفَهم الأسفلَ! مازلت مُلقى علي ظهري, تقدم نحوي رجلٌ مَهيبُ المنظر, كثيفُ الشعرِ واللحيةِ, أمرني زاجرا:
قُم يا رجل، مهمتُنا مُقدَسةٌ, واحترس لنفسِك مرةً أُخرى وحافة القارب, اعتدلتُ قائما, زادت دهشتي لما وجدتني في نفسِ هيأتِهم, وأرتدي مثلَهم,حتى شكل النهرِ مختلف، يسيح عندَ شاطئيه البعيدين الوارفين بالنخيل والغاب, هل كنتُ غارقًا بين هذه التماسيحِ المفترسة؟! أفراسُ النهرِ العملاقةِ ترعى بكثرةٍ عند الشاطئ!
صوتٌ جهوري يصيحُ: تجمعوا أيها الرجال, الملك (مصرايم ابن حام) يحدثكُم.
أيها الرجال: تعلمونَ أن وجهتَنا هي جبلُ القمرِ حيثُ ينبعُ هذا النهر, مهمتنا تعبيد وهندسة مجراه, للحفاظِ على الماء الذي يسيحُ في الأرض ولا ينتفعُ به الناس, إذ علينا أن ننجزَ تلك المهمةَ قبل ظهور النجمِ الأسطع سيريوس الذي يفيضُ النيلُ عند بزوغِه, سنسيرُ في ونسٍ وعمارٍ حتي نجتازَ الخطَ الذي يستوي عندَه الليلُ والنهار (خط الاستواء) ثم إذا ما وصلنا أرض الزنج والأحباش كان الطريق خرابا, إلا من قبائل متناحرة بين الغابات. ثم استطرد بكلماتٍ في صلاة: نسألُ خنومَ وحابي البركةَ والرعايةَ, والعودة بسلام. أبحرنا أياما وليالي, في أجواء غامضة, كادت الحيرةُ أن تذهبَ بعقلي, هل أنا مِتّ وأعيشُ حياةَ البرزخ؟! هل انتقلتُ لزمنٍ سالفٍ هكذا بكلِ بساطةٍ؟! صوتُ هدير ماءِ أحدهِم يصيحُ بقوة: جبلُ القمر, لقد بلغنا جبلَ القمر. صارت همهماتٌ وتهليلاتٌ بين البحارة, فرحة بالوصول. جبلٌ شاهقٌ منقوشٌ في زخرفٍ وجمال, كأنه تحفةٌ برونزيةٌ غاليةُ الثمن, ينحدر من أعلى قمتِه شلالُ الماء فيصدرُ هديرا وتراطما شديدا للمياه حتى لم يعدْ أحدٌ منا يسمع زميلَه القريب منه. أمرَ الملكُ مصرايم أحدَ جنودِه الأقوياء, أن يتسلقَ الجبل, و يستكشفَ من أين ينبعُ الماء. صعدَ الرجلُ بخفةٍ ورشاقة, لكنه لم يعد! طالَ انتظاره حتى انتهى اليومُ ولم يعد كشافُ المَلك, في اليوم التالي.. أرسلَ رجلا غيَره, ولم يعد! تكررَ ما حدثَ مع المستكشفِ الأول في اليوم الثالث, ربطوا المستكشفَ الجديدَ بحبلٍ طويلٍ غليظ, حتى لا يضيعَ مثلَ سابقيه. ولما استغيبوه جذبوا الحبلَ, حتي بدا الرجل عند حافة الجبل, ولكن, جحظتْ عيناه على اتساعها, وصاحَ بصوتٍ جهورٍ أسمع الثقلين, رغم هدير الماء العنيف: (جنة الخلد) إنها واللهِ جنةُ الخلد, ثم عادَ واختفى. هاجَ البحارةُ وماجوا، يرددون في ذهولٍ: جنة الخلد! وماذا ننتظرُ بعد, وراحوا يتسابقون تسلقَ الجبل, ترددتُ لبرهة, لكن سرعانَ ما أدركتُ أن مصيري أصبحَ مرهونا بمصير هؤلاءِ الرجال, فسارعتُ أشاركهم تسلق جبل القمر, حجرٌ التصقَ بقدمي, حاولتُ أن أتماسكَ, ترنحتُ في الهواء, سقطتُ في الماء, ثقيلٌ ماءُ النيل, إني أغرقُ, ميتٌ أنا لا محالةَ تلك المرة. أيادٍ قوية تنتشلني من الماء, أنا نصفُ واعٍ, طرحوني على وجهي, أفرغوا الماء من جوفي, ثم أقاموني, أحدهم يحدثني في حنو: ألا تنتبه ياشيخ لموضع قدمِك؟
ـ أنت الرائد بكري, قائدي وصديقي, كنتُ ألهثُ خلفكَ سيدي كي ألحقَ بك.
_ عجبا! وهل تعرفُ المرحوم أبي؟!