الحاكم بأمر الله في ميزان التاريخ …. مقال بقلم سيد جعيتم

تُعد شخصية الحاكم بأمر الله من أكثر الشخصيات الجدلية في التاريخ المصري، حيث تختلف الآراء حوله بشكل كبير. وقد عُرف عنه تقلباته النفسية واضطراباته العقلية، بالإضافة إلى انحرافاته الفكرية، وغضبه الشديد وبطشه. كما تميّز بطغيانه وجبروته، في الوقت الذي كان فيه يتحلى ببعض صفات التسامح والعدالة والصرامة. وبالرغم من تسرعه في بعض الأحيان، إلا أنه كان يُعرف أيضًا بحكمته ورغبته العميقة في العلوم والمعرفة، وغموضه وزهده وتصوفه، بالإضافة إلى جنون قراراته، وامتزجت هذه الصفات بالتعريفات الحديثة في علم النفس، فسوف يتضح أن الحاكم يمكن تفسيره كشخصية تتمتع بخصائص سيكوباتية. فاضطراب السايكوباثية يتميز بتطرف السلوك، والغطرسة، وعدم الولاء، والتلاعب بالآخرين دون أي تعاطف مع ضحاياه، أو شعور بالذنب أو الندم على أفعاله.
يمتاز صاحب هذه الشخصية بقدرته على التعامل بلطف ووداعة مع الآخرين، مما يمكّنه من كسب ثقتهم ومدحهم، ليستخدم ذلك لاحقًا في التلاعب بهم. وغالبًا ما تُنسب هذه الصفة إلى السفاحين والمستبدين الذين ارتكبوا مجازر ضد الآلاف دون أن يشعروا بأي ندم، بل إنهم يضفون الشرعية على أعمالهم).
سمح الحاكم لأتباعه بابتكار مذهب جديد يخالف المذهب الإسماعيلي الذي اعتنقه أجداده. فقد منح حرية كاملة لمحمد بن إسماعيل الدَّرزي وتابعه حمزة الزوزني لإطلاق الدعوة للمذهب الجديد في عام 408 هـ، حيث دعا إلى ألوهية الحاكم.
ويُقال إن هذه الفكرة نالت استحسان الحاكم، مما جعله يعتقد بتجسد الإله في شخصه، وتفيد مصادر أخرى بأنه رفض المذهب الجديد وأصدر أوامره بقتل محمد بن إسماعيل الدرزي. وكان بعض الأشخاص عند رؤية الحاكم ينادونه بالألقاب: ‘يا واحد، يا أحد، يا محيي، يا مميت’. لنبدأ بالتعرف على هذه الشخصية المثيرة للجدل.

هو المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله المهدي. ولقبه الحاكم بأمر الله وكنيته أبو علي، وهو الحاكم الفاطمي السادس والإمام الإسماعيلي السادس عشر. حكم لمدة 25 عامًا من عام 386 هـ إلى أن توفي عام 411 هـ. خلف والده العزيز بالله نزار أبو منصور وتولى مقاليد الحكم وعمره إحدى عشرة سنة تحت وصاية (برجوان) التركي، الذي لقنه علوم المذهب الشيعي،
بالإضافة إلى علوم الفلسفة وعلوم الفلك، وقد ساهم وجود عناصر متعددة الأجناس في قصره من عرب ومصريين وأتراك وبربر وزنج في تشكيل شخصيته، مع ما تحمله كل جنسية من معتقدات دينية وعقائدية مذهبية. كما تذكر بعض المصادر أن والدته كانت مسيحية، كما أن زوجة أبيه أم أخته، المعروفة باسم ست الملك مسيحية.
يتفق كل من كارل بروكلمان في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية، والكندي في مؤلفه الولاة والقضاة، ويحيى بن سعيد الأنطاكي في كتابه ذيل التاريخ، على أن الحاكم كان يتمتع بذكاء وطموح كبيرين. وقد كان يسعى إلى تحدي النمط الذي فرضته عليه الشخصيات المحيطة به من المسؤولين في الدولة الفاطمية، مثل الوصي عليه برجوان التركي ووالدته وأخته ست الملك، ممن كانوا يسعون للحفاظ على تقاليد الدولة الفاطمية وعلى نفوذهم الشخصي.
لنأخذ مثالاً على المسيطرين على الصبي في بداية حكمه:
ـ أبو الفتوح برجوان، الوصي وأستاذ الحاكم بأمر الله،كان برجوان من الخصيان الذين نشأوا في القصر، رغم أن أصوله تبقى غامضة. فقد ذكر ابن خلكان أنه كان أفريقي البشرة، بينما أشار ابن القلانسي والمقريزي إلى أنه كان أبيض، وهناك من قال إنه تركي أو من صقلية أو سلافي. وقد تحالف برجوان مع بربر كتامة ضد الجنود العبيد الأتراك واستحوذ على مقاليد السلطة الفعلية.د،واستمر في التعامل مع الحاكم على أنه تلميذه، وأطلق على الحاكم لقب ( السحلية)، مما دفع الحاكم إلى تدبير خطة لقتله، ليصبح هو الحاكم الفعلي في سن الخامسة عشر. وفي هذا السياق،
ـ أخته ست الملك التي كانت تسعى لتعزيز نفوذها وتدبير المؤامرات للسيطرة عليه، بهدف الحكم من خلف الكواليس، إلا أنه وُجه إليها اتهامات تشوه سمعتها وتلحق بها العار.
كان من بين الأسباب التي أدت إلى مقتله رغبته في تغيير نظام الوراثة المعتمد كأحد المبادئ الأساسية للمذهب الشيعي الإسماعيلي، حيث كان يُعتقد أن الإمامة يجب أن تكون من نسل علي بن أبي طالب فقط ، وان تنتقل الإمامة من الأب إلى الابن استنادًا إلى الفكرة التي تفترض أن هذه الإمامة تتطلب صفات وعلومًا خاصة ينبغي أن تنتقل بالوراثة. وقد التزم الفاطميون بهذا النظام منذ تأسيس دولتهم. ومع ذلك، حاول الحاكم خرق هذا التقليد من خلال توصيته بولاية العهد لابن عمه، عبد الرحيم بن إلياس، كما حصل على بيعة من جميع رجال الدولة لهذا الأمر.
قُتل الحاكم بأمر الله في جبل المقطم بجنوب القاهرة بينما كان يتجه إلى مرصده الذي شيده فوق الجبل، حيث رُصدت آثار دموية على حماره وملابسه، مما دفع الناس للاعتقاد بأنه قُتل، دون العثور على جثته. نتيجة لذلك، أُشيع من قبل أتباعه أنه دخل في غيبة كبرى وسيعود.
تختلف الروايات بشأن تفاصيل مقتله؛ فقد ذكرت بعض المصادر أنه كان ضحية مؤامرة دبرت ضده من أعدائه. ومع ذلك، تُجمع الروايات على أنه قُتل بتدبير من أخته ست الملك.

  • في بداية حكمه، أظهر تقشفًا وزهداً ملحوظين، حيث أخرج بعض حظاياه من قصره وأعتق عبيده، سواء من الذكور أو الإناث. كما ارتدى الملابس الخشنة وقلل من الإسراف الذي كان يترافق مع الاحتفالات بالمناسبات المختلفة، ومنع الناس من تقبيل التراب بين يديه أو السجود له.
  • سمح لأهل الذمة بالاحتفال بعيد الغطاس وأجاز للأتراك الاحتفاء بعيد النيروز، لكنه سرعان ما تراجع ومنع هذه الاحتفالات في وقت لاحق.
    ـ استُقدم العالم ابن الهيثم من مدينة البصرة العراقية لبناء سد على نهر النيل. وأوضح ابن الهيثم أن أفضل موقع لهذا البناء يقع في جنوب مصر، حيث يتواجد السد العالي اليوم، لكن تلك المنطقة كانت خارج نطاق سيطرة الدولة الفاطمية آنذاك.
    ـ وفي سن العشرين، أسس دار الحكمة في القاهرة عام 395 هـ، حيث زودها بالكتب وهيأ فيها جميع وسائل البحث والدراسة والتأليف.
  • تم إصدار توجيهات لإصلاح المكاييل والموازين، مع التأكيد على ضرورة تجنب أي تلاعب أو نقص في قياسها.
  • تم التأكيد على أهمية تنظيف الشوارع والأزقة ومداخل المنازل في جميع المناطق.
    السلبيات:
  • أبدى سلوكًا عدائيًا تجاه المسلمين من أهل السنة والجماعة، حيث أصدر أمرًا بلعن الخلفاء الثلاثة الأوائل (أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان)، بالإضافة إلى شمول الأمر بالسيدة عائشة. لكنه قام بإلغاء هذا الأمر بعد مرور عامين.
    ـ أصدر قرارًا يلزم أهل الذمة بارتداء غيار محدد، يتضمن وضع زنار ملون، أغلبها باللون الأسود، حول خصورهم، وارتداء عمائم سوداء على رؤوسهم، وكذلك تعليق صليب حديدي، وتلفيعات سوداء. كما أُجبر اليهود على ارتداء قلادة بشكل عجل خشبي، في حين تم تحديد قيود لباس النساء من أهل الكتاب بارتداء فردتي حذاء مختلفتين، واحدة باللون الأحمر والأخرى باللون الأسود.
    ـ في 18 أكتوبر من عام 1009، أصدر أمرًا بتدمير كنيسة القيامة نتيجةً لاستيائه من الكهنة الذين زعموا أن النار المقدسة قد نزلت داخل الكنيسة. ويُقال إن سبب غضبه يعود إلى الزعم بأن أمه مسيحية .
  • تقرر منع تناول بعض الأطعمة مثل الملوخية والجرجير والمتوكلية، بالإضافة إلى حظر ذبح الأبقار، إذ يُسمح بذلك فقط في أيام الأضاحي وضمن شروط معينة بحيث يُذبح منها ما لا يصلح للحرث.
  • كما تقرر أن يُؤذن لصلاة الظهر في بداية الساعة السابعة (زوالية)، بينما يُؤذن لصلاة العصر في بداية الساعة التاسعة (زوالية).
  • منع صيد وبيع وتناول السمك بلا قشر د وفقاً لما يعتقده أتباع المذهب الشيعي.
  • رسم لمجموعة من الأحداث وهم يقفزون من ارتفاع عالٍ في القصر إلى بركة مياه، مما أدى إلى وفاة نحو ثلاثين منهم بعد سقوطهم على صخرة خارج الماء.
  • اندلعت في القاهرة نارٌ هائلة، يُزعم أن وراءها جماعات راعية مسلحة من السودان الزنوج بتوجيه من الحاكم، الذي أمر جنوده بالقضاء عليهم. وتعرض قائد جنوده للطعن في عنقه بحربة حادة بعد أن أخبر الحاكم بأنه شهد فظائع يصعب وصفها، فقال:
  • لو أن باسيل ملك الروم غزا مصر، لما تصرف بها وبسكانها كما فعل.
  • أصدر أوامره بمنع صناع الأحذية من تصنيع الأحذية المخصصة للنساء، بغرض إجبارهن على عدم الخروج من منازلهن.
  • يُذكر أن الحاكم كان مغرمًا بسفك الدماء، حيث قام بقتل الوصي التركي (برجوان) وتدبير اغتيال الوزراء الستة الذين تولوا الحكم بعد ذلك.
    أو على الأقل نظم اغتيال عدد كبير منهم، حيث تم قتل قائد قواته، الحسين بن جوهر، والقاضي عبد العزيز بن النعمان، فضلاً عن القائد الفضل بن صالح، الذي كان يُعتبر من أبرز قادة الجيش الفاطمي، ونجح في قمع ثورة أبي ركوة. كما قُتل رجاء بن أبي الحسين، وقائد الشرطة غلاب بن مالك، والقاضي مالك بن سعيد. ولم تتوقف الأمور عند ذلك، بل جرت تصفية مؤدبه أبا تميم سعيد الفارقي أثناء محادثته في مجلسه.
  • أصدر أوامر متناقضة، حيث أوصى بممارسة النشاط ليلاً والنوم نهاراً، ثم تراجع عن هذا الرأي. كما أظهر سلوكاً متبايناً تجاه أهل الذمة، فبينما قام باضطهادهم، عاد بعد ذلك ليتسامح معهم ويُحسن إليهم. يُقال إنه حارب الخمر وتداولها واستهلاكها، لدرجة أنه منع زراعة كروم العنب بعدما اتهم المزارعين بزراعة العنب بغرض صناعة الخمور.
  • قام بزرع عيون من النساء في المنازل لتتحسس أخبارها، ثم ادعى لاحقاً أن هذه المعلومات كانت تأتيه من معارفه، مما يُظهر قدراته المزعومة على معرفة الغيب.
    ـ تُعَدُّ حادثة منع دخول النساء إلى الحمامات العامة من أبرز المخالفات التي اتخذها الحاكم بأمر الله الفاطمي، وعندما علم بمخالفة أمره، أمر ببناء حائط مكان الباب، بينما كانت النساء بالداخل، ولم يُفتح لهن حتى توفين.

أولا : الموحدون الدروز

تأسس المذهب على يد محمد بن إسماعيل الدرزي في زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي (411هـ/1020م)، تقول المصادر إن الحاكم رفض ادعاءات الدرزي عن الألوهية، وأمر بإلغاء حركته مع دعم حركة حمزة بن علي بن أحمد، والدروز طائفة منشقة عن الطائفة الإسماعيلية، ولها إيديولوجية دينية وفلسفية باطنية خاصة بها. ونظرًا لأنهم خرجوا من رحم الإسلام، فإنهم يشاركون الإسلام في معتقدات معينة، فهم، حسب قولهم، يعدّون أنفسهم فرقة إسلامية، وإن كانوا يحرصون على تفردهم وتقاليدهم. وقد اعتبر بعض علماء المسلمين أنهم خارجون عن الدين الإسلامي. وقد تحمل حمزة بن علي بن أحمد في عام 1017 مسئولية التبشير بالإيمان الدرزي وبدأ في نشر العقيدة التوحيدية، بدعم من الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله،
والذي أصدر مرسومًا يشجع الحرية الدينية قبل إعلان الدعوة الإلهية.
أصبح الحاكم بأمر الله شخصيةً محوريةً في العقيدة الدرزية، وكان يُعتقد أنه «ليس فقط القائد الديني والسياسي المعين إلهيًا، بل أيضًا هو الفكر الكوني الذي يربط الله بالخليقة، ويرى آخرون أنه مظهر من مظاهر تناسخ الله أو الذي يفترض صورة الله.

ثانيًا: طائفة البهرة:

البهرة تعني التجارة، وهم طائفة شيعية إسماعيلية مستعلية نسبة إلى الخليفة والإمام الفاطمي التاسع المستعلي بالله أحمد (1095-1101 م). فهم أحفاد الفاطميين، ويُقدسون أئمتهم الذين هم خلفاء الدولة الفاطمية، ومنهم الحاكم بأمر الله، الذي يعتقدون أنه سيعود من غيبته لتعود معه دولة الخلافة الفاطمية. وأنه سيخرج من أحد عيون الماء بمسجد الحاكم بأمر الله بالقاهرة، ويؤمنون بدعائم الإسلام. وأركان الإسلام عندهم سبعة: الشهادتان، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، و«الولاية والطهارة»، مع معتقدات خاصة بهم. يتمحور معتقدهم حول الأئمة والدعاة. مركزهم الرئيسي في الهند، ويتوزعون في دول مختلفة حول العالم، وتقدر أعدادهم بنحو مليون، ويمارسون طقوسهم وصلواتهم في مسجدي الحاكم بأمر الله والأقمر.


[1] – أحمد شلبي، موسوعة الحضارة الإسلامية.
[2] – يحيى بن سعيد الأنطاكي، كتاب ذيل التاريخ.
[3] – المقريزي، الخطط، القاهرة.
[4] – أحمد شلبي، موسوعة الحضارة الإسلامية.
[5] – مصادر خاصة بالطائفة الدرزية.
[6] – مصادر خاصة بطائفة البهرة.

اقرأ باقي العدد ١٥

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى