التمثال … قصة قصيرة بقلم ربيع دهام

يدي. راحتي. معصمي. أصابعي. كل شيء في داخلي يؤلمني.
كل خليّةٍ في كياني حائرة، مرتبكة، مرتابة.
كأنّ بي أعيش هنا ولا أعيش. وأتنفّس هنا، ولا أتنفّس.
جولة جديدة من المصارعة الحرّة مع دماغي للتوِّ بدأت.
أجل. مباريات أشنّها على عقلي، كهذه، باتت يوميّة.
بل وعلى مدار الساعة والدقيقة.
أفكار تقاتل أفكاراً. علامات استفهاميّة تشتبك مع أخرى، فتعلق سنانٌ بسنان.
وتتكدّس العُقد والعراقيل.
وها أنا ذا، أشتبك مع دماغي. أشدّ عليه. أهرشه. لا بل أعصره.
لكنّ العصرَ، كما في نهاية كل جولة، يكون بلا جدوى.
وكذلك الشدّ والهرش.
ورغم المحاولات الدؤوبة، والمتكرّرة، والعنيدة، لم يكن ليخرج من
ذهني ولو نطفة واحدةٍ من جواب.
أأنا في معضلة؟ أم أنّ المعضلة أنا؟
أم أنّ الحياة قد زجّتني، كما زجّت غيري، في كوكب المعضلات الكبير؟
كوكب من أسئلة نعلق بها، كما نحن عالقون بين أرضٍ وسماء؟
كيف أشرح؟ كيف أفسّر؟ وماذا أقول؟
للمرة الرابعة أزيح ستارة النافذة وأرمق.
فأشاهد المارّة والسيارات. والدخان المنبعث من كل شيءٍ يتحرّك، ولا يتحرّك.
وللمرة الخامسة أحمل جوّالي وأنظر، فأشاهد المارّة والسيارات.
والدخان المنبعث من كل شيءٍ يتحرّك، ولا يتحرّك.
وأسير نحو الكنبة، وعلى جلدها الدافئ أرتمي، وأفكّر.
أفكّر في أماكن أراها ولا أراها.
وتواريخ أذكرها ولا أذكرها.
وأحباب التقيت بهم ولم ألتقِ.
وشوارع. وأزقّة. ودكاكين. ذكريات شممتُ رائحتها، وما شممتُ.
وتختلط في داخلي الحواس، وتشتبك مع بعضها الأحاسيس.
مشاهد الموت التي على شاشة الأخبار لم تعد تحزنني.
لا. ليس لأنني رجلٌ عديم المشاعر.
بل. بل لأنني… لا أعرف لماذا!
أفلام الكوميديا التي كانت تضحكني لم تعد تضحكني.
لا. ليس لأنني رجلٌ فقد حس الفكاهة، أو روحه الطفوليّة.
بل لأن… لأن. لا أعرف لماذا!
أنا ضائعٌ. تائهٌ. شاردٌ. ضالٌ. زائغٌ بين عالمين. بين شاشتين.
بين واقعين. بين حقيقتين، أو بين وهمين.
والأسوأ من كل هذا، هو ذاك الشعور الهدّام في عدم اليقين.
أتذكر لحظة خروجك من الغفوة، وإدراكك أنك كنتَ في حلم؟
هذا سهلٌ.
لكن أن تكون مستيقظاً دون أن تعرف إن كنتَ تحلم أم لا. هنا تكمن
المشكلة. كل المشكلة.
أنا لم أعد. لم أعد أعرف في أيّة دنيا أعيش؟
أو خلف أيّة شاشة يكمن الناس الحقيقيّون؟ والشوارع الحقيقيّة؟
والضحكات الأصليّة، والدموع؟
وأعود إلى النافذة وأرمق.
وأعود إلى الجوّال وأنظر.
وفجأةً، وفي لحظة ليتها لا تحصل مع أحد، تموت…
نعم. تموت.
لا. ليس أنا وليس أنت. وليس أي أحدٍ آخر. كما لا الوطن والأرض.
بل أسوأ من ذلك بكثير.
تموت بطاريّة الجوّال. تصوّر؟!
وتنطفئ الشاشة، ويا للفاجعة.
ويبان انعكاس وجهٍ بشريٍّ عليها.
وأحدّق في الوجه المجهول وأصيح: “من…من ذاك؟”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى