الأرجوحة…..قصة قصيرة بقلم عبدالأمير عبداللطيف خليل /العراق


الأرجوحة…..قصة قصيرة بقلم عبدالأمير عبداللطيف خليل /العراق

تركتنا نحن الثّلاثة مبلّلين باليأس إلى حد العظم، بعد أن اقتلعت العاصفة خيمتنا، وها نحن نرتجف
كأوراق الخريف، ولا سقف نستظل به. كان رحيلها من غير وداع حزينا، ولحظة صمت رهيبة، ودمعة كبيرة بحجم الفراغ الذي خلَّفه الغياب القسري، فكل صباحاتي الجميلة كانت تبتدئ بوجه أمي.
ظلماء وبلا نهاية كانت صباحات حيِّنا الفقير، الذي كنّا فيه نتقاسم اللقمة والفرح والحزن، واشتراك شبكة الإنترنت، وصديق الطفولة إبراهيم يلازمني حتى النوم لمواساتي، عندها تحاصرني دموع أبي المتقاعد، وانكسار أخي الصغير، الذي يلازم أبي حتى في غرفة نومه، والحزن مخيماً حتى على الجدران، ألجأ إلى صفحات التواصل الاجتماعي، اعتدت وصديقي باستخدم أسماء وهمية، لنتجنب سخرية من يعرفنا، لأن آمالنا الوردية لا يمكن أن تنبت في واقعنا، وأحلامنا كبيرة أضعاف مقاسنا، فنبدو كالمهرج البائس قصائدي التي توشحت بالحزن، شعوري بالوحدة، وأنيني، يتسرب من بين سطور نصوصي، رغم الحشد الذي يتواجد حولي، جذبت كلماتي أحدهم، مردداً أحد أبياتها :
حياةٌ ممثلون نحن في مسارحها
ستارها الموت يعلو حيناً وينسدلُ
حدّثني، طلب مني الانضمام إلى مجموعته الخاصة للأدباء المتميزين، وسأكون ضمن المائة، لنسهم بنهضة أدبية جديدة، فالرعاع يملأون عالمنا الافتراضي، كما يقول،
كنت وحدي في هذا العالم القاسي أصارع الألم، وانتبهت لصوت يقول اني معك، لينقذني من زاوية الضياع، أنظر للأخرين، تفصل بيننا جبال من الهموم وبحار من الفقر والعوز، ولا ألومهم حين يسموني معقداً، لأنهم لم يتجرّعوا مرارة ماءها المالح، وبلا تردّد وافقت.
بدأنا نقاشاتنا لروايات عديدة، مثل رواية “آنا كارنينا” لتولستوي، “السيدة دالاوي” لفرجينيا وولف، “حذار من الشفقة” لستيفان زفايج، و”الغابة السوداء” لكيوري جوكاي، كانت أفكاره بصيص النور الذي لم أجد غيره لأتبعه في حيرتي، ومن يعارضه كان مصيره الطرد، لم يتبق منّا غير ثلاثين فردا، بعد أن بَلْوَرَ لنا فكرة الموت، أشعرنا بأن العالم يؤمن بالزيف، ونحن أصحاب المشاعر الصادقة لامكان لنا
هنا، ولو كان لقلوبنا الكسيرة صوت، لأصبح العيش على أرضنا مستحيلاً بسبب ضجيجها.
كان الألم في داخلي أشبه ببندقية كلما ألهمته عتاد الذكريات، علا صراخه في داخلي، ليقتلني مرارا، ومن دون موت، أعاود الكرة من جديد، وكلّما صحوت عدتُ أتسول ذكرى من تلك الأيام الخوالي، لأعايش الألم والحزن مرارا وتكرارا، كتاباته تنكأ جرحي المتقيح، قال: في الرياضيات المستقيم أقصر خطّ بين نقطتين، فعلام التعرجات وكلّ التواءات الألم المؤذية، مادام الموت هو النهاية التي يلتقي عندها الجميع، كانت كلماته ترنُّ في أذني، تهدم بمعولها، الأمل في داخلي، ويقتل بقايا الحياة التي تُنعش ذلك الجسد المعذب، صدى كلماته مدويا ومقنعاً، حين يردّد لم أعد أطيق لغة الصمت، وأنتم مثلي، سأجعلكم تصرخون بوجه هذا الألم، والعالم البائس، بكل قوة، دون خوف أو وَجَل، ترفضونه بإصرار الأطفال، وشجاعة الفرسان.
فجأة تغير اسلوبه، متسائلا هل منكم مَنْ لم يصنع أرجوحة في طفولته؟ أتذكرون مقدار السّعادة التي شعرتم بها وأنتم تطلقون أقدامكم للريح وتحلقون في فضاء الفرح؟ أحيا شعوراً جميلاً، أشبه بِمَنْ يستخرج درّة من محارة ميتة، أنتنها الزمن، وأردف قائلا: جميعنا سنصنع ارجوحة، ولكن ليس كأرجوحة الطفولة بل أرجوحة تليق بأحلامنا وعمرنا، وأمرنا أن نحضر حبلاً، وشرح العملية بقياساتها وبالتفصيل الكامل، ثم قال غدا هو الثلاثاء والقمر بدراً في أوج توهجه وسيدلُّكم الطّريق إلى السّماء، وطلب منا أن نغادر المجموعة إشارة لتحليقنا، كدت أفعلها وأشرت مغادرتي، لولا صورة أمي التي كانت تبكي أمامي وهي تحاول منعي، ونمت كأني لم أنم ابداًِ، صحوت صباحًا على نشيج أبي، وجلبة في الخارج، علمت بعدها أن صديقي إبراهيم مات منتحرا، رسالته أكدت انه كان من مجموعتنا، دون علمي.
ما أصعب الغياب وما أصعب أن تتكسر أغصان تعوّدت الوقوف عليها، الواحد بعد الآخر، وباء أُمي، مشنقة إبراهيم، أحسست إن فُتات أحلامي الباقية لم تعد غير ذكرى أليمة، أنشأت صفحة جديدة وحذفت السابقة، وفي مجموعاتي القديمة نشرت قصائدي الحزينة الجديدة، وعندها بدأ الذئب الكرة من جديد بأسمٍ مختلف، عندئذٍ أمسكت بالحبل وقرّرت أن أصنع له أرجوحته، فتوجهت لأقرب موقعٍ أمني.
تمت