“استطعتَ معه صبرًا” قصة قصيرة بقلم محمد كمال سالم

الآن أستطيع أن أحكي لكم قصتي مع هذا الرجل:
هو بكل بساطة، رجل نصف فلسطيني، التقيتُه في رحلة البحث عن الرزق المستمرة الطويلة.

يوم أن سألته أن أعمل معه تابعًا على شاحنته العملاقة (تباعًا)، فقد كان شهرُ رمضانَ الكريمُ على الأبواب.
نظر إليَّ مليًّا يتفحَّصني، ثم أجابني:
_ لم يستطع معي أحدٌ من قبلُ صبرًا.

كنتُ أحتاج إلى العمل بشدّة، فقلتُ له بنبرة واثقة:
_ جرّبني.

أومأ برأسه موافقًا على مضض.

عمّ فهد كان قويًّا عريضًا، وجهه ينبض بالحمرة، وشعرُه ولحيتُه بُنِّيَّانِ يميلان إلى الحُمرة، صاحبَ ملامحَ حادّة، وبشرةٍ طهتْها الشمس على مرّ السنوات. كان لهيئته ولطباعه نصيبٌ كبيرٌ من اسمه، لكنه لم يكن أبدًا متكبّرًا.

أغدقَ عليّ، وتبدّل حالي معه.
كنتُ أحمل له البضاعة في الشاحنة، أفرغها، أنظفها دائمًا، أُعِدُّ له الشايَ والقهوة، وأطهو لنا طعامَنا على الطريق كلما استرحنا. كان أمينًا جدًّا في معاملاته، حادًّا حاسمًا في الحقّ، باشًّا ليّنًا إذا أعطى وإذا تحدّث. أحببته لدرجة أني ما كنتُ أحتمل فراقه تلك الأيامَ التي كان يعبر فيها المعبرَ لقضاء بعض الوقت مع أسرته وعائلته.

لم تَبدُ على عمّ فهد أيٌّ من مظاهر الثراء، رغم ما كنا نجنيه من أموال طائلة من عملٍ وكدٍّ لا ينقطعان. كان رجلًا مثاليًّا، غيرَ أنه… غيرَ أنه…

_ كانت تحدث معه ظواهرُ عجيبةٌ غريبة، لم أجد لها مبرّرًا.

في أحد أسفارنا، غفا وهو يقود القاطرة عند أحد الجسور، وهوت الشاحنة في الهواء تسقط في النهر، حتى أني صرختُ وأيقنتُ أننا هالكانِ لا محالة… فإذا بالشاحنة، وكأنّ يدًا حملتها ووضعتها على الجهة الأخرى من النهر بكل رفقٍ وسلامة! بين هلعي واندهاشي، غيرَ مصدّقٍ لما يحدث، إذا بهاتفٍ يأتيني يقول لي حاسمًا: “لا تُحدّث أحدًا بما رأيتَ.”

وما كان من عمّ فهد إلا أن نظر إليّ نظرةً تحملُ نفسَ المعنى!!
ثم اعتدتُ بعد ذلك على نومِه وهو يقود، والشاحنةُ تسيرُ وكأنها قُيِّض لها قائدٌ خفيٌّ وحارس.

عبرنا معبرَ رفحَ عدةَ مرات، نُهَرِّبُ المؤنَ والدواء إلى غزة، وهو مغلقٌ من جانب الملاعين، والقصفُ يحيطُنا من كل اتجاه، ولا تصيبُنا شظيّةٌ واحدة.

حتى كانت الرحلة الأخيرة…

عندما علم أن بيته هناك قد دُمِّر، وكنا صائمين في رمضان، وكنا في قلب غزةَ والدمارُ يحيطُنا من كل جانب، وقد فقدنا كل المؤن، وحانت ساعةُ الإفطار، فإذا به يصطحبني إلى بيتٍ قريبٍ مهدّمٍ ودخلناه، فإذا بمائدةٍ عامرةٍ بأشهى الطعامِ والشرابِ تشعّ ضوءًا، وصبيَّين جميلَين قاما بضيافتنا حتى شبعنا وارتوينا. وما إن انتهينا، التفتُّ حولي، فكانت دهشتي: ما من شيءٍ حولنا إلا الدمارُ والرُّكام!

لم يكترث عمّي فهد بدهشتي، ملأ كلَّ جيوبي بأموالٍ طائلة، وعانقني عناقًا طويلًا، حتى أفقتُ فوجدتني في حَيِّنَا أمام بيتي… وحيدًا.

أتاني نفس الهاتفِ يهمس لي: “الآن تستطيع أن تحكي.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى