فوبيا ….قصة خفيفة بقلم د. خالد العجماوي


أوصى النبي بسابع جار، ولكن يبدو أن جاره الحاج خميس قد فهم أنه قد أوصى عليه وليس به!
حك ذقنه المنبتة وقد استبد به التوتر، وهو يقود سيارته في طريقه إلى منزله.
يستفزه الحاج خميس..يتعب أعصابه، بل ويغضبه أيضا. لا يذكر أن التقاه مرة صدفة سواء أمام باب العمارة، أو عند السيارة إلا وقد وجد وجهه عابسا متجهما. كان يتعمد أن يبتسم في وجهه، وأن يقابله بسحنة طليقة مستبشرة. فما يرد عليه خميس إلا بحاجبين مقطبين، ووجه كئيب متحفز، كأنه يعاقبه كونه جاره في نفس الدور في الخامس دون وجود مصعد. وهل غياب المصعد ذنبه؟ زوجته كذلك. تحية على ما يذكر، امرأة بدينة مترهلة، لا يذكر أن شاهدها مرة تبتسم، أو تكلف نفسها فترد له تحيته الصباحية، بل إنه إن تجرأ وفعلها، فألقى عليها تحية قصيرة مثل صباح الخير أو مساء النور، فإن وجهها ينكمش في نفسه مثل ورقة كمشها صاحبها قبل أن يلقيها في قمامة.. فكر أنها ربما متدينة نوعا، وأنه رجل، وأنه ليس للرجال أن تسلم على النساء، غير أن زوجته سناء تشتكي كذلك منها ومن أسلوبها الفظ. قالت إنها ذات مرة وفي منتصف الليل سمعت -كالعادة- أصوات عالية كالشجار نجمت من شقة الحاج خميس وزوجته تحية، إلا أنها في ذاك اليوم سمعت صوت ارتطام شيء ثقيل على الأرض. شعرت بالخوف على جارتها، وفي الصباح دقت على بابها، فإذا بها تفتح لها بوجه كاره متحفز. لما أخبرتها أنها أرادت أن تطمئن عليها ثارت أعصابها، ونهرتها، وصفقت الباب في وجهها. أهذا جزاء زوجتي سناء أن سألت على زوجتك يا خميس؟ لن أدعوك الحاج بعد اليوم. أنت لا تعرف أصول الجيرة ولا أظنك حججت بيت الله يوما، فيكفيك اسمك وكفى، بل أجد أن اسم خميس لا تستحقه. كان يكفيك اسما مثل أربعاء أو ربما سبت أيها العبوس المتجهم.
صعد سلم العمارة ببطء وهو يفكر. العيب ليس فيه ولا في زوجته. هو يحاول أن يبتسم في وجهه فلا يرد عليه إلا بتكشيرة منفرة. لما دلف إلى منزله وجد زوجته سناء تبكي بحرقة.

  • قليلة الحياء..أراقت قمامتها كلها أمام باب بيتنا. لما سألتها عن السبب ثارت في وجهي. بصقت علي ورمتني بعظم دجاجة.
    استبد به الغضب. فارت أعصابه، وتملكت منه رغبة في الانتقام. رمق خارجا وانطلق يدق على باب جاره خميس في عنف..
  • افتح..بيننا حساب..
    فتح خميس، ولأول مرة يلاحظ ضخامة جسده المهول! بدا له هضبة مستقرة أمام باب بيته، كما شعر بيدي خميس ككلابتين من حديد تطبقان على تلابيبه. تقطعت أنفاسه وخميس يرفعه من على الأرض كطفل صغير بين يدي مارد كبير. سأله بصوت أجش:
  • ماذا تريد؟
    كأنه نسي الأبجدية، فوجد نفسه يتلعثم مثل طفل دون الثالثة، يدافع عن نفسه وأبوه يعنفه بعد أن بال على نفسه:
  • الحا..الحاجة تح..تحية..
    لفحته شرارة من نار في وجهه إثر نظرة صوبها إليه خميس:
  • ما لها؟
    لا يريد أن يذكر الأحداث بعد ذلك. النسيان نعمة، أو ربما التناسي.
    لكن رغبة الانتقام تكاد تأكل روحه..خميس الكلب، صغرني أمام نفسي، وأمام زوجتي..مرت الأيام وهو شارد الذهن. لن يأتيه البوليس بحقه، كما أن رجولته تمنعه أن يتشكيه في القسم كي يبلغ عنه ويقول إنه.. لا لا يفضل التناسي عن ذكر التفاصيل.
    شعرت به سناء.. هي أيضا تريد الانتقام. قالت له شاردة وهي مغرقة في التفكير:
  • هي تخاف الحيوانات..
  • كيف عرفت؟
  • وجدتها تنظر في خوف إلى قطة تعبر شارعنا..كان في عينيها رعب وترقب..
    لمعت عيناه، وسألها:
  • متأكدة؟
    استدارت إليه بوجهها، وقالت كطفلة فرحة:
  • أذكر أني قابلتها صدفة تحت العمارة وهي تحمل أغراضا ثقيلة، عرضت عليها أن أساعدها فرمقتني بنظرة مستحقرة، ثم إن قطة مرت مسرعة أمامنا، فإذا بها تصرخ في ذعر، وينفلت من يديها أغراضها، وركضت مسرعة نحو داخل العمارة وقد تملكها الفزع!
  • فوبيا!
  • تخاف القطط..
  • سأشتري كلبا إذن..كلب كبير وضخم..
    قالت ناهية :
  • لا لا..يكفينا قطة..قطة صغيرة..
    في اليوم التالي صعد سلمه وفي يده قطته. كانت لا تزال في شهورها الأولى. ظلت تموء. لمح جارته تحية وقد واربت الباب وهي ترمقه بطرف عين وهو يحملها قبل دخوله شقته. عرف في عينها الخوف. اللئيمة خائفة. صفقت الباب مذعورة وقلبه منتش في سعادة المنتصر!
    تعمد أن يتركها خارجا. وضع لها طعاما وماء..ظلت تأكل في نهم، وهي تموء مواء ينخلع له قلب تحية من الخوف والذعر.
    مر أسبوع. لم يعد يرى جارته. ولم تعد سناء تسمع صوت شجار ينجم عن شقة خميس وتحية. لاحظت سناء أن الأصوات اختفت، بل إن زوجها أكد أنه سمع صوت أغنية في الصباح. عبد الوهاب يصدح من شقة الحاج خميس! يا للأقدار!
    قرر أن يسأل البواب. لطالما تجاهل نظراته الساخرة مع طلوعه وهبوطه درجات السلم بعد حادثة شجاره مع خميس. لكنه هذه المرة لاحظ لمعة إعجاب في عينه، كأنه ينظر إلى شجاع، أو إلى بطل! سأله وقد أكله الفضول:
  • ألا تعرف أخبا..
    قاطعه البواب وهو ينظر إليه بإعجاب:
  • الحاجة تحية مشت وتركت البيت..والحاج بقى وحده..
    رفع حاجبيه متعجبا. تركت البيت! القطة السبب؟! الجبانة!
    لمح نظرة افتخار من عين البواب، وهو يستطرد:
  • الحاج صار سميعا..كل يوم عبد الوهاب وفريد..كما كمش لي مائة جنيه.
    قالها وهو يخرج من جيبه ورقة المائة. صعد درجات السلم مذهولا. استقبلته القطة في الدور الخامس، وهي تأكل من طبق أمام جاره خميس، كما وجد الحاج خميس ينظر إليه من طرف بابه وقد لانت ملامحه بشكل عجيب، وجده مبتسما مستبشرا، وهو ينظر إليه نظرة امتنان وحبور، ثم إنه احتضنه بين ذراعيه في ود وحب، وهو يقول له بنبرة عرفان:
  • شكرا لك!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى