حِكايةُ أُغنيَةٍ وقَصيدة ….مقال تحقيقي بقلم مدحـت صــلاح

حدث ذاتَ صباحٍ أنْ وقعتْ عيني على قصيدةٍ لصديقٍ شاعرٍ يُجاري بها قصيدةً شهيرةً تغنَّت بها فيروز، وساجلَها العديدُ قبله مِن الشعراء، المشهورين والمغمورين على حدٍّ سواء، ولمْ أُعرْها اهتمامًا حينها، قد يكون بسبب انشغالي الدائم، وعدم قدرتي على التركيز وقتذاك.
ولكن، هذه المرَّة، توقَّفتُ عِند القصيدةِ المُتداولةِ والشهيرةِ على مواقع التواصلِ الاجتماعي، وفي فيديوهاتٍ عدَّةٍ على اليوتيوب، وقد نُسِبتْ إلى الشاعر نزار قبَّاني، ونسبها آخرون إلى الشاعر مُظفَّر النَّواب، وبعضهم إلى الشاعر عُمر أبو ريشة.

توقَّفتُ، لأنَّه كما قال أرسطو:
“الجاهلُ يُؤكِّد، والعالِمُ يَشُك، والعاقلُ يَتَروَّى.”
أمَّا عَن المُثقَّفين، فالطامَّةُ أكبر.

وفي قِصَّتِها يُقال إنَّه عندما غنَّت فيروز “سيفٌ فَلْيُشهَر”
ضمن ألبوم (القُدس في البال) الذي صدر عام ١٩٦٧م،
من كلمات “سعيد عُقيل”:

” سيفٌ فَلْيُشهَرْ في الدُّنيا
ولْتَصْدَعْ أبواقٌ تَصْدَعْ
الآنَ الآنَ وليسَ غدًا
أجراسُ العودةِ فَلْتُقرَعْ”.

ردَّ عليها نزار بهذه القصيدة بعد نكسة عام ١٩٦٧م: غنَّتْ فيروزُ مُغرِّدةً:
“وآذانُ العربِ لها تَسمَعْ
الآنَ الآنَ وليسَ غدًا
أجراسُ العودةِ فلتُقرَعْ
مِن أينَ العودةُ فيروزُ؟
والعَودةُ تحتاجُ لمَدفعْ
والمِدفعُ يَلزَمُه كفٌّ
والكفُّ يحتاجُ لإِصبَعْ
والإصبعُ مُلتذٌّ لاهٍ
في {….} الشَّعبُ له مَرْتَعْ”

عفوًا فيروزُ، ومَعذرةً
أجراسُ العودةِ لن تُقرَعْ
خازوقٌ دُقَّ بأسفلِنا
مِن شَرَمِ الشيخِ إلى سَعسَعْ
ومِنَ الجَولانِ إلى يافا
ومِنَ النَّاقورةِ إلى إزرُعْ
خازوقٌ دُقَّ بأسفلِنا
خازوقٌ دُقَّ، ولن يَطلَعْ.

أنا شخصيًّا، كنتُ مِثل الجميع أظنُّ سابقًا أنَّ هذه القصيدة لنزار قباني فعلًا، فالقصيدة مشتهرةٌ جدًّا باسمه، لولا أنَّني انتبهتُ — عند تكرارها — لاختلاف المفردات والنَّسَق عن أسلوب نزار، إلى درجة أنَّ حتى الشاعر الشابّ المُعاصر “تميم البرغوثي: قد ردَّ عليهما دون أن ينتبه! قائلًا:

“عفوًا فيروزُ ونزارُ
فالحالُ الآنَ هو الأفظَعْ
إنْ كانَ زمانُكما بَشِعًا
فزمانُ زعامتِنا أَبشَعْ
مِن بشَّارَ المانِعِ إلى سَعْدٍ
مِن حُسني القيءِ إلى جَعجَعْ
أوغادٌ تلهو بأمَّتنا
وبِلحمِ الأطفالِ الرُّضَّعْ
تُصغي لأوامرِ أمريكا
ولغير “إيهودٍ” لا تَركَعْ
زُلمٌ قد باعوا كرامتهم
وفِراشُ الذُّلِّ لهم مَخدعْ
كنَّا بالأمسِ لنا وطنٌ
أجراسُ العَودِ له تُقرَعْ
ما عادَ الآنَ لنا جَرَسٌ
في الأرضِ، ولا حتَّى إصبَعْ
إسفينٌ دُقَّ بعَورَتنا
مِن هَرَمِ الجيزةِ إلى سَعسَعْ”

ثم أتى رابعٌ وردَّ على الثلاثة، فيروز ونزار وتميم، وأتى خامسٌ وردَّ على الأربعة، وسادسٌ وهكذا… حتى أصبحت القصيدة “تحدِّيًا وسِجالًا” في المجاراة بين الشُعراء العرب.
وهذا في حدِّ ذاته ليس عيبًا، بل هو إثراء للحركة الشعرية والوطنية.

لكن، ما بُنيَ على باطلٍ، فهو باطل، وتكون المفاجأة أنَّ القصيدة الأولى — التي بُنيَ عليها هذا السِّجال — ليستْ لنزار على الإطلاق!
وأقول هذا، ليس لأنَّني أدَّعي العلمَ بكلِّ ما كتب نزار، ولكن بعد بحثٍ، لم أجدها في أيٍّ ممَّا خطَّهُ أو ذكره!

وعِند البحث والاستقصاء، طالَعَني أولًا بعضُ الآراء التي تؤكِّد أنَّها للشاعر السوري المعاصر، ابن مدينة الرَّقة: فيصل عبد الهادي البليبل (١٩١٩–١٩٨٤م)،
وأنَّها طُبعت في أحد دواوينه تحت اسم:
“قصائد مزَّقها جمال عبد الناصر” (١٩٦٢م)
– هو اسم الديوان، وليس المقصود أنَّ عبد الناصر مزَّقها فعليًّا – ولكن هُناك أيضًا مَن كذب هذا’
.

وإلى هنا، كدتُ أقتنع بهذا، خاصَّة أنَّه صدر عن كُتَّابٍ وشعراء كبار، وتوقفتُ مرَّةً أخرى مُتعجِّبًا:

كيف لقصيدةٍ نُشرت في ديوان عام ١٩٦٢م أن تذكر وتردَّ على أغنيةٍ لفيروز لم تكن قد صدرت بعد، بل صدرت بعدها بخمس سنوات، عام ١٩٦٧م؟
وتعجَّبت، وعاودت البحث مرَّةً أخرى، ولكن بعد أن وضعتُ اسم الشاعر “فيصل البليبل” في اعتباراتي وأولويَّات البحث، فلا نارَ بلا دُخان.

حتى عثرتُ على حديثٍ عن كتابٍ صدر للشاعر بسام بليبل، ابن شقيق الشاعر “فيصل البليبل”، بعنوان:
(الشاعر فيصل بليبل: سيرة شاهد على العصر وذاكرة وطن)،
وقد ذُكر فيه هذا الموضوع، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأستاذ “بسام” ورث التراث الشعري لعمِّه المرحوم، بمخطوطاته ومطبوعاته ودواوينه التي لمْ تُوافِق السلطةُ آنذاك على طبعها — وهو أمرٌ كان يحدث في معظم الأقطار العربية حينها.

وقد ورد في هذا الكتاب أنَّه، في مقطعٍ بعنوان (أجراسُ العودة فلتقرع)، توقَّف “فيصل بليبل” عند بيتين من أغنية السيدة فيروز الشهيرة (سيفٌ فليُشهَر)، التي انتشرت في النصف الأخير من ستينيات القرن الماضي،
وكتب تلك الأبيات في مَخطوط “الدروب إلى حزيران” صفحة [٤٦]،
والذي لمْ يحظَ بالموافقة على النشر في حينه، ولكنها نُشرت فيما بعد عقب اتفاقية “كامب ديفيد” ومُعارضة النظام السوري لها.

ولمَّا كان “فيصل بليبل” يكتب أحيانًا بأسماءٍ مستعارة، خفيةً عن أعين الأنظمة الحاكمة وهربًا منها، فقد خَفِيَ اسم المؤلف عن الناس، فنسبوها تارةً إلى نزار قباني، وتارةً إلى غيره.

وقد يتساءل البعض: لماذا لم يُكذِّب نزار هذا، بينما كان لا يزال على قيد الحياة؟
والإجابة بسيطة: أنَّ هذا لم ينتشر وقتها، بل انتشر الآن’
، في هذه الفترة، مع عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.

القصيدة لمْ تتجاوز خمسة أبيات، وأضاف إليها شعراء آخرون أبياتًا حتى تجاوزت الثلاثين بيتًا، والحقيقة التي تُنشر لأول مرَّة، هي أنَّ هذه القصيدة للمرحوم الشاعر فيصل بليبل، وهي إحدى قصائده المخطوطة.

وهكذا، يتَّضح الأمر… والعُهدة على الراوي.

– فيصل البليبل صاحب القصيدة، هو شاعرٌ عاصر الاحتلال الفرنسي لسوريا واستقلالها، والوحدة بين سوريا ومصر، والانقلابات العسكرية الكثيرة في سوريا قبل الوحدة وبعدها.
هاجم الكثير من الأنظمة العربية.
كان شاعرًا فذًّا وبليغًا، مهتمًّا بالسياسة ونقدها بشعره،
لكنَّه — بكل أسف — لم يحظَ بالشهرة الكافية، أو بالانتشار العربي الواسع كنزار قباني،
وإنَّما اقتصرت شهرته داخل القُطر السوري فقط،
وقد كتب دواوينَ ومخطوطاتٍ عِدَّة مِن الشعر.

والسؤال هُنا:
لماذا هذا الزِّيف؟ ولِمَن تعود الفائدة؟ وهل هو عَن قصدٍ…
أم عَن جهلٍ؟!

– مدحت صلاح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى