في ذكرى قصف “غرنيكا “الإسبانيةمقال بقلم د. آمنة الهجرسي


في ذكرى قصف “غرنيكا “الإسبانية
مقال بقلم د. آمنة الهجرسي

هل يشبه الأمس اليوم؟
تمر علينا في السادس والعشرين من هذا الشهر ذكرى قصف مدينة “غرنيكا الباسك” إحدى معاقل الثورة الإسبانية في العام 1937م.
كانت غرنيكا تمثل المعقل الشمالي لحركة المقاومة الجمهورية ومركزا لثقافة الباسك واتحدت بها العديد من الفصائل ( الشيوعية والاشتراكية وبعض الضباط المنشقين نصرة للحكومة المنتخبة) في ذلك الوقت في مواجهة القوميين رغم تعدد الرؤى والاختلافات فيما بينهم…
كان يوم السادس والعشرين يوما للتسوق في قلب غرنيكا حيث يعرض المزارعون منتجاتهم الزراعية للبيع وكان معظم المتجمعين في ذلك اليوم من النساء والأطفال والشيوخ لأن الرجال متمركزون في جبهات القتال … كانت غرنيكا الباسك تقف حائلا أمام تقدم القوميين بقيادة فرانسيسكو فرانكو المنقلب على حكومة 1936م يسانده في ذلك غالبية الجيش والأثرياءوملاك الأراضي ورجال الكنيسة من أصحاب المصالح والداعمين لبقاء الملكية التي تضمن بقاءهم وبقاء ثرواتهم ، وكانت ألمانيا النازية تدعمه وتدعم الفكر اليميني المتطرف الذي يتبناه …
تذكر المصادر والصحف الموثوقة أن الآلاف من المدنيين العزل قد تجمعوا في وسط المدينة يوم التسوق ، ومع ذلك استعان فرانكو بالألمان النازيين والإيطاليين الفاشيين لتنفيذ قصفه الوحشي على غرنيكا في إقليم الباسك عن عمد في ذلك اليوم تحديدا كرسالة لبث الرعب من جهة و لتمهيد الطريق إلى مدينة بلباو في شمال إسبانيا..
بحوالي 40 طائرة تابعتين لكل من فيلق الكوندور الألماني وفيلق التدخل السريع الإيطالي التابع لسلاح الجو أفاسيون قصف قلب المدينة لمدة ساعتين وقيل ثلاثا وأسقطت الطائرات أكثر من 50 طنا من القنابل المتفجرة بناء على طلب من الجبهة القومية الإسبانية وأطلقوا على العملية اسم ( عملية روغن ) ، لم يتسنى لأحد الفرار لأن الحطام كان يملأ الطرق المؤدية إلى خارج المدينة والجسور محطمة كما يذكر الصحفي “فون رختهوفن” في مقاله : أسقطوا كل شيء موجود في المركز..هدمت المنازل ودمرت أنابيب المياه …”
لايزال عدد الضحايا موضوع جدل حتى يومنا هذا لكن اللافت والمؤكد أنهم كانوا من المدنيين العزل وأغلبهم من النساء والأطفال الذين لا ذنب لهم وهذا ما دفع العديد من الصحفيين العالميين في ذلك الوقت للتعاطف مع الحدث والتعاطي معه ومنهم جورج ستير الذي يدعم الباسك والجمهوريين وقد لفت انتباه الرسام العالمي بابلو بيكاسو تقاريره في التايمز ونيويورك تايمز وصحيفة الإنسانية وهي صحيفة شيوعية فرنسية تصدر يوميا مما دفعه إلى العدول عن رسوماته التي كان يعدها لعمل جدارية كبيرة من أجل عرضها في الجناح الأسباني في معرض باريس الدولي بطلب من الجمهورية الإسبانية الثانية في يناير 1937م ..قدم بيكاسو جداريته التاريخية والأكثر شهرة لتتحول فيما بعد وحتى يومنا هذا إلى أيقونة مضادة للحرب وداعمة للسلام …
اليوم تتكرر مأساة قصف المدنيين العزل في أرض الزيتون ويرى البعض أنها غرنيكا جديدة وأرى أن مثل هذا الوصف فيه إجحاف كبير ..لماذا؟!!
قصفت غرنيكا مرة واحدة بوحشية شديدة فقامت الدنيا في ذلك الوقت وسلطت الأضواء وانبرت الصحف والمجلات للتنديد بوحشية النازية والفاشية ، ولاقت هذه التنديدات صدى كبيرا عند من يهمه الأمر من عشاق السيطرة والهيمنة، ليس تعاطفا مع الثوار الأسبان بقدر ماهو فرصة لتأليب الجميع ضد عدو خطير يتمثل في النازية وأتباعها ..
اليوم يقصف المدنيون من النساء والأطفال عن عمد لأكثر من عام ونصف ليس بهدف بث الرعب أو تخويف الفصائل المسلحة بل لهدف واحد وواضح للجميع وضوح الشمس ؛ فالمحتل المريض يريدها إبادة جماعية حتى لا تقوم لهذا الشعب الأعزل قائمة أخرى وتنتهي قضيته وحقه في امتلاك أرض آبائه وأجداده .. حرب وقحة وغير مبررة بتاتا لأن من الوقاحة أن يسرق أحدهم شيئا لا يخصه ثم يشن حربا على صاحب هذا الشيء يستخدم فيها أبشع أنواع الأسلحة والقنابل والمتفجرات ، لكنها مشيئة القدر لفضح النوايا الخبيثة والكذب والتجني أمام العالم بأسره .. إنها مشيئة القدر أن يرى العالم حقيقة الإسلام عندما يمثل حاملي رايته في هذه البقعة الصغيرة جغرافيا الكبيرة بأفعالها العظيمة نموذجا مثاليا للمؤمن الحق الذي يدرك تمام الإدراك أن الدنيا لا تستحق وأن الثبات على كلمة الحق يتطلب شجاعة وإقداما وفداء كبيرا، وأن الدنيا دار فناء سنخرج منها ونتركها في جميع الأحوال ، فليكن إذن بعزة وشرف وعدم انحناء وقبول للذل والمهانة..
هذه الحرب الوحشية كشفت الغطاء عن الكاذبين المدعيين حمايتهم لحقوق الإنسان وأكدت للبشر حول العالم أن مؤسساتهم مزيفة وغير عادلة مع الجميع بل هي وسيلة للسيطرة والهيمنة على كل من يرونه خارج الحدود المرسومة له ؛ فالفيتو لا يفعل لدعم الحق وإنما لحماية المصالح حتى وإن تعارضت مع مصطلحات الحق والعدالة والسلام وإلا لماذا لم يرغموا
” ربيبهم المدلل” على التوقف عن ممارساته التترية الجنونية؟!!
هذه الحرب أسقطت الأقنعة عن الإدعات والكذب والزيف ولله در محمود درويش فله قصيدة طويلة يعرفها الجميع في هذا الشأن.. فالضعف والتخاذل لا يؤدي إلا إلى مزيد من الإذلال والخضوع لهيمنة الآخر وتحكماته ..إنها ” الحرب الفاضحة ” كما يسميها أحد الخبراء العسكريين ووالله لقد صدق..
فيما يوثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تحت عنوان (يوميات الحرب: الإبادة الجماعية التي ترتكبها إsراeeل في عْــzzة) وتؤكد التقارير إلى أن العدو المختل قد ألقى على المدينة أكثر من 25000طن من المتفجرات منذ بداية الصراع أي ما يعادل قنبلتين نوويتين ، ومع ذلك لم يوقفهم أحد بعينه لأعمالهم الوحشية كما فعل مع ألمانيا النازية فكيف لمن زرع الفيروس عن عمد أن يوقف انتشاره !!! مستحيل !! فهذا ضد مصلحته الاستغلالية الراغبة في السيطرة والهيمنة على الجميع ..
فيما يتعلق بالمؤسسات العامة والإنسانية حول العالم فالعتاطف على أشده والتنديد بالمجازر لا يتوقف والمقاطعة للشركات الإجرامية الداعمة والممولة لهذا العدوان لم يتوقف ولا أعتقد أنه سيتوقف فقد أزيل الغبار من أمام أعين الجميع ، العديد من الأناشيد العالمية الرافضة والعديد من الجداريات الموثِّقة والفاضحة مع التوثيق الدائم عبر الوسائل التكنولوجية المتاحة بكافة أشكالها للمشاهد المرعبة والوحشية التي لا توصف ومع ذلك لم تحرك هذه المشاهد ساكنا للـ “كاوبوي اللص”ولا من يأتمرون بأمره حول العالم … أصدرت المحكمة الدولية مذكرات توقيف ومع ذلك لم ينفذ !! فكيف يمكن لأحدهم أن يقول عما يحدث اليوم أنها غرنيكا جديدة ؟!! إنه لظلم كبير وافتئات غير مقبول ..إنها ملحمة غصن الزيتون الذي سقط من اليمامة البيضاء وماهي إلا البداية فقط …