غدر بالوفاء … قصة منى الشوربجي


غدر بالوفاء … قصة منى الشوربجي

كعادته، كان يجلس بجوار مدفأته، يكتنفه الهدوء، وتغمره الذكريات التي تتراقص أمام عينيه كصور قديمة مُصفرة على جدار الزمان. في تلك اللحظات، يعبر الزمن بين يديه كما تعبر الرمال من بين أصابع عتيقة، يتذكر أيام الفرح والدموع، ويمضي في تذكّر اللحظات الحلوة التي خُطت بأحرف من أملٍ وصداقة. كانت عيناه تتلألأ بين الحين والآخر، فيبتسم، ثم يغرق في بحرٍ من الأحزان.
وبينما (أمين) غارق في تأملاته، يتجسد أمامه مشهد من الماضي القريب ؛ مشهد لقائه الأول مع صديقه الجار (باهر )؛ ذلك الرجل الذي طالما كان له سندًا في تجارتهما المشتركة.
في البداية ،جاءه ذلك الصديق باهر بعرض نبيل: “ماذا لو تعاونّا في مساعدة الفقراء في شهر الخير والإحسان ؟”. كانت الدعوة صادقة، وكان الجواب أسرع من الهمسات، إذ لبّى أمين الدعوة بلا تردد، وعمل مع صديقه باهر على تجهيز وتعبئة كراتين بكل ما تيسر من خير وبرحابة صدر . كانا يعملان معًا، يدا بيد، ويعطيهم السعي إلى الخير قناعة أن لا شيء يمكن أن يعكر صفو هذه العلاقة الوثيقة.
ولكن شاءت الأقدار وظهور تطورات غريبة مع حلول رمضان التالي، إذ بدأ باهر في تبدل حال بشكل غير متوقع والتفت إليه الأيام فبدلته، وجاءه الشيطان بكل ما يملك من وساوس، ليحرفه عن مساره.
بدأ في خداع أمين، ونجح في أن يجرده من أى ممتلكات خاصة به .
هز هذا الظلم كيان أمين فساقته قدماه إلى جاره الصديق باهر لفهم الأمور ، وللأسف جفاؤه قد سبق ؛ ومُلِءَ قلبه بكل خلل وأطاح بصداقة عمر مضى .. وللدهشة لم يكتفِ بذلك، بل قام بطرده بدم بارد .
عاد أمين مدهوشاً تزلزله المفاجأة من الجذور ؛ متألماً بسبب الفساد والطمع محاولاً استيعاب ما جرى، ولكنها كانت صدمة تفوق الوصف ، بل خيانة لا توصف.
مع مرور الوقت دهمه المرض بسبب السخط على فعل الصديق وتلاشى كل شئ ؛ العمل والاستقرار وحتى القدرة على توفير العلاج لم يستطع عليها .
حاول أبناؤه أن يستعيدوا حقه، فذهبوا إلى باهر ، فوقف أمامهم برهة صامتاً ثم رد قائلاً :
“لقد باعني والدكم ما يملك بإرادته، ليس لدى أي حل هذه مشكلتكم أنتم !”
كان الرد كفيلاً بإغلاق كل الأبواب، إلا باب السماء. ومن يتق الله يجعل له مخرجاً من حيث لا يحتسب
رغم الأزمة، صمد الأبناء. بدأوا ببيع ما تبقى لديهم، لم يتوقفوا على أنقاض الماضي وأسسوا مشروعًا صغيرًا، إلى أن أصبح مؤسسة تجارية كبيرة بمرور الوقت ، حتى أصبحت تجارتهم تنافس أعمال باهر نفسه. ومع كل نجاح، كان والدهم دائم النصح لهم بالقناعة والشرف والكلمة لم ينسوا أيضاً دور والدهم في الإحسان، أداموا توزيع الصدقات .
وفي ليلة من ليالي شهر رمضان، طرق الباب. فتح الابن ليجد رجلاً بهيئة هزيلة منكسرة وكأنه رآه من قبل وكأنه يعرفه جيدًا إنه باهر . فلم يعد بهيئته المتكبرة ، وأصبح صوته ضعيف يملأه خزى وحسرة وهو يقول:
“لقد خسرت كل شيء… لم أجد غير بابكم ألجأ إليه. جرى ناحية أمين وطلب منه بصوت هزيل : سامحني،
لا أريد غير السماح
لا أطمع في أكثر من ذلك”
وقف أمين للحظة، ينظر إليه بعينين تحملان مزيجًا من الشفقة وثقة في مقادير الله فلم يكن في قلبه حقد، لكنه تعلم أن بعض الأخطاء لا يمكن محوها.
قال بهدوء:
“أما حقي، فقد تركته لله منذ زمن، وأما ثقتي، فالخيانة نزعتها من جذورها بلا عودة .”
ثم أشار إلى ابنه ليعطيه صدقة، وقال بصوت خافت، وهو ينظر إلى الهلال في السماء:
نحن في شهر الغفران
وردد قول الله تعالى
” فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم “
صدق الله العظيم
خرج باهر يجر خيبته، بينما ظل أمين ينظر إلى السماء وكأن الزمن الفائت يمر أمامه بشريط أحداثه كاملاً ، مطمئنًا أن العدالة الإلهية قد أخذت مجراها.