جرم الكتابة …. مقال بقلم د. آمنة الهجرسي

لماذا نصر على اقتراف جرم الكتابة؟
وأنا هنا أعني الكتابة الهادفة تحديداً..
قد يتبادر إلى أذهان البعض هذا التساؤل:
وهل الكتابة جريمة؟!!
الإجابة:
نعم ، الكتابة الهادفة وبخاصة من قبل الأشخاص الذين يرفضون الانتماء لقطيع بعينه أو السير وفق أعراف تتنافى مع مبادئه التي ارتضاها بفطرته السليمة في هذا العصر جريمة كبرى عقابها التجاهل والإقصاء في كثير من الأحيان … ومع هذا يستمر المثقفون وأصحاب الأفكار البناءة على اختلاف توجهاتها في تعاطي فعل الكتابة رغم أن أمة إقرأ لم تعد تقرأ بالمفهوم الحقيقي لمعنى القراءة ..
ومع هيمنة التكنولوجيا والإقبال على كل ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي (اللااجتماعية في رأيي) ومع غياب عمليات الضبط والتوثيق والافتقار إلى رقابة حقيقية لأن القائمين على إدارة ووضع قوانين اللعبة الخاصة بالكتابة والنشر يميلون إلى ذلك كثيرا بل ويدعمونه بقوة ؛ أصبح بمقدور الكثيرين ممن يرفعون راية الثقافة ولا يعرفون عنها شيئا أن ينشروا كل ما هو غث وتافه ومضيّع للوقت الثمين ولا يهدف إلى شيء سوى الظهور والبقاء (أون لاين) وقضاء أكبر وقت ممكن في تواصل مع الجمهور الافتراضي الذي يعاني هو الآخر من أزمة ثقافة حقيقية وفقدان تام لمعايير التعامل مع النصوص الحقيفية المقدمة بل وفقدان كامل لمفهوم الحياة وانعدام الأهداف ..
وقد يقول قائل: إن جيل الشباب منذ سنوات يقبل على القراءة بشكل كبير ويقتنون المؤلفات الورقية وبخاصه الروائية منها ويرتادون معارض الكتب، كما أن مكتبات الكتب الإلكترونية انتشرت بشكل كبير بل وأصبحت هناك وسائل لعرض المؤلفات في صورة مسموعة ،فأين الأزمة؟!!!
هذا صحيح وغير صحيح في وقت واحد..وكيف ذلك؟
لأنهم في الغالب لا يقتنون سوى الروايات الرومانسيةالحالمةوالتافهة أوالبوليسيةالمشوَّهةوالمشوِّهة في كثير من الأحيان .. نجدهم يقبلون على هذا اللون تحديدا من ألوان الأدب إما لفرط ما فيها من ضخ لشحنات العواطف والمشاعر المؤذية ؛لأنها تجعل المراهقين يعيشون في عالم خيالي وأحلام كاذبة وإما لفرط ما فيها مشاهد وأوصاف صريحة خليعة كان يكفي التلميح لها لا التصريح الجارح بحجة كاذبة وقحة يسمونها (الواقعية)ولكنها خطة المؤلف الساعي والهادف إلى زيادة عدد المبيعات من خلال استهداف فئة الشباب المغيب والمراهقين التائهين وليس إلى نشر الوعي ونقل مشاكل الواقع – مثلا- وفرض حلول حقيقية لها وهذا يذكرنا بما ناقشة البروفيسور آلان دونو في كتابه المعروف “نظام التفاهة” فكل شيء أصبح خاضعا لسيطرة اللعبة والقائمين عليها ..أما سائر المؤلفات الأخرى بما فيها القصص والروايات الهادفة بحق فعملية الانتقاء تنصب في الغالب على كل ما له علاقه بالتنمية البشرية وعلوم الطاقة وتحفيز الذات ودخلت كتب التاريخ في غرفة الانعاش وسارت كتب اللغات المختصة وبخاصة العربية في نهر متضارب التيارات يعج بأسماك البيرانا الفكرية الراغبة في افتراسها.. وربما كان للخلل الاجتماعي الكبير والفجوات النفسية والتواصلية داخل كل أسرة وليس فقط كل مجتمع سبب كبير في إقبال الناس والشباب تحديدا على قراءة مثل هذا النتاج المزري الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ..
أين تذهب كتب العديد من المجالات كالتاريخ وهو أهمها على الإطلاق لأنه يبني وينبه ويذكر ويحذرويسجل بدقة عند توفر الأمانة العلمية في النقل ،و أين كتب الفلسفه والطب والهندسة وسائر العلوم الدينية والدنيوية ؟!!!!
” لا حياة لمن تنادي” صدقت المقولة..
قديما وبالتحديد في بدايت العصر الحديث وبخاصة في قاهرة المعز كان الناس من مرتادي المقاهي الشعبية والكافيهات الراقية يقبلون على قراءة المستجدات السياسية والاقتصادية والثقافية من خلال الصحف والمجلات -القليلة والمميزة جدا في نفس الوقت- ويتناقشون فيما بينهم حولها ويبدي كل منهم رأيه بما يعكس خلفية ثقافية بناءة ومتبادلة بفهوم حقيقي لمعنى كلمة ثقافة بشكل عملي وليس تنظيريا .. كان الناس قديما يُعلُون من شأن المحتوى المقدم ويتخلون عن كل ما هو غث ورديء وما أقله وقتها فيرغمون بذلك أصحاب هذه المحتويات المضللة على التراجع والانزواءبل والشعور بالخجل والعار.
اليوم لا يجد الناس وقتا لمثل هذا اللون من التبادل الثقافي ،اليوم يتبجح التافهون بنصوصهم ويعلون من قيمة محتواهم المريض لأنهم يتقنون اللعبة ، لعبة التفاهة في العصر الحديث ..لم تترك الحياة بأعبائها الثقيلة وقتا لرجل الشارع العادي لتفقد الصحف أو المجلات التي كثرت كثرة مفرطة وباتت تسير وفق أهواء القائمين عليها والمسؤولين عنها وتبحث دائما عن ما من سبيله أن (يوزع ويجذب الزبون) وليت هذا أفلح!!
لم يعد هناك وقت للقراءة في المنزل مع فنجان القهوة أو كوب الشاي وأنغام فيروز ، لم تعد مكاتب الموظفين في المصالح الحكومية تعج بآراء الزملاء فيما بينهم عن أخبار الصحف والمجلات وإنما أصبحت الهيمنة لأحد أمرين إما قصص الفنانين والفنانات وإما أسعار المنتجات ،لم يعد أحدهم يقرأ لا لنفسه ولا لأبنائه حتى قبل النوم ….وهكذا من هبوط لهبوط..
وبالتالي أصبحت عملية تثقيف الذات في نهاية القائمة المتعلقة بأولويات كل فرد في المجتمع ومع ذلك لا يزال هناك البعض من المثقفين يكتبون قصائدهم وقصصهم ويقدمون رواياتهم الهادفة -الاجتماعيه بحق- تلك التي تنكأ الجروح بهدف تطهيرها و البحث عن حلول لها . هم يدركون في قرارة أنفسهم أنها عملية صعبة.. أن نعيد الناس إلى ما كانوا عليه سابقا أو على الأقل نلفتهم إلى أهمية وخطورةانتقاء محتوياتهم التي يقرؤونها هي عملية صعبة جدا مع هذا الكم الهائل من الزخم الإعلامي على مستوى الصوت والصورة..
إن السواد الأعظم من الناس في مجتمعاتنا العربية في هذا العصر يغطون في سبات عميق وتراخ غير مسبوق .. لا يقومون بأدنى محاولة لتغيير نمط التفكير أو على الأقل إقناع العقل بالتخلي عن وضعية الركود الفكري وتفعيل آلياته للعمل كما قُدّر له.. وإلا ما الفرق بينهم وبين الأنعام؟!!!
إن اقتراف جرم الكتابة الهادفة في هذا العصر والإصرار عليه يهدف في المقام الأول إلى إحداث تغيير حقيقي في صفوف هؤلاء تحديدا و حثهم على الاستفاده من معطيات الحياة الطبيعية من حولهم والتخلص من براثن العبودية لترسانة السوشيال ميديا أو المستعمر الفكري الجديد وحثهم على نبذ المؤلفات الهابطة وقنوات الإعلام الهابط خاصة وأن هنالك حالة واضحة للعيان من السعي إلى تتفيه كل ما هو قيم ومفيد والتقليل من شانه وأصبحت التفاهه رمزا من رموز هذا العصر وتصدر أصحاب المحتويات التافهة- كما سبق- عبر التطبيقات المختلفة المشهد .
إن المثقف الواعي يدرك بحق قيمة الكلمة كوسيلة فاعلة لإحداث التغيير المطلوب وإن كان على المدى البعيد .. إنها مهمة شاقة أن يحمل أحدهم الشعلة ،شعلة التنويركما نوه صلاح عبد الصبور في مسرحياته مثلا ومن قبله ستيفن سبندر في مقالاته ومؤلفاته ، أن يجعل من حروفه وكلماته سراجا ينير الطريق للآخر ذلك أمر مرهق بالفعل ولكنه قدر الغيريين ومحبي الخير للغير … وصحيح أن الأذواق مسلطة في كثير من الأحيان على التافهين لكن المجتمع لا يخلو أبدا من وجود العقول الحرة والضمائر المتقدة الساعية دائما إلى حمل شعلة التغيير إلى الأفضل وبذل كل ما هو متاح لإعاده ما كان لنا سابقا…
يستخدم هؤلاء المثقفون ما يسمى بأثر الفراشة أي أنهم يقدمون محتوياتهم ببطء شديد عبر منصات ومواقع محترمة بآليات وضوابط محدده تغلق الباب أمام المتطفلين على مائدة الثقافة والأدب وما أكثرهم..
نعم سيستمر كل قلم حر في الكتابة والقيام بالمهمة الثقيلة الملقاة على عاتقه وهي إعانة المغيبين على استعادة الوعي وإيقاظ الهمم الراكدة في عصر مليء بالتغيرات والفتن التي لا تنتهي…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى