محفظة حمراء ….قصة قصيرة بقلم المحامي محمد حسن – سورية – حلب

الطريق الممتد يبدو لا نهاية له، ليس هناك أي ضوء آخر النفق، القذائف تتهاطل من كل حدب وصوب، حمامات الدم انتشرت في كل مكان، وركام الأبنية المتساقطة التي تبكي تاريخها، وقد هرب منها كل الدفء.
كل الكلاب هربت دون عشاء، أصوات الطائرات الحربية تخترق جدار الصوت دون استئذان، الطريق الوعرة تبعثر كل الأرجل بلا رحمة ولاشفقة، عشرات النساء والأطفال والشيوخ يسارعون الخطى هربا من الجحيم دون التفات وقد تقطعت بهم السبل .
تمزق قلبي ووقع أرضا ولم أستطع إنقاذه، وغدوت مع الجموع المهزومة أسير بلا قلب، وأنا أتحامل على خطواتي، أنظر إلى ثيابي الممزقة وأشاهد قدميّ المدمي، وجسدي المتمايل المغطى بالغبار فلا أعرف نفسي إلا من سعالي فأشعر أنني مازلت على قيد الحياة .
من بعيد لمحتها تحمل كل أثقال الدنيا، كانت تسير لوحدها تلتحف السواد الذي أكل وشرب معه الغبار والوحل، تحمل حقيبة على كتفها الأيمن وحقيبة على كتفها الأيسر وحقيبة على ظهرها، تجر نفسها وكل خيبات الزمان، ومحفظة صغيرة حمراء علقتها على صدرها، وهي تسحب بيدها اليمنى طفلا يسير ويتقاذف مع نفسه بفردة حذاء واحدة.
والقدم الأخرى بلا حذاء، يتعثر على الرمال وقد خارت قواه، يبكي ويصرخ ويرتجي الإفلات والأم تحاول التماسك، تسابق الوقت ترتجي وتناجي النجاة .
آلمني هذا المنظر ومزق كياني التائه في نفس توهانها، وقد ضاع منا المسار وتقطعت بنا السبل ولا نلوي على شيء، كنت كلما أحاول الاقتراب منها لأساعدها أتخاذل وأتذكر أنني بلا قلب، تنفطر نياطٍ ما داخل روحي فأسارع إليها، ولكن يتبلد احساسي فأعرف مرة أخرى أنني لازلت في مرحلة الانهزام .
المرأة تتصارع مع خطواتها وغدت منهكة تتمايل يمنة ويسرة ويتوه منها طفلها الصغير، وتظفر به دون أن تلتفت، تسحبه وتسحب نفسها وتخور قواها وترتعد مع كل قذيفة تقع خلفنا ويتدمر كل كيانها مع كل بناء ينهار .
شعرت بأن جراحي المثخنة قد خف صليلها عندما اقترب منها شاب أيقظته اللهفة، واقترب منها يحاول مساعدتها، سكنت قليلا مشاعري وسكنتُ؛ وأنا أراقب المشهد، كان الشاب وسيما، شعر رأسه مازال يحتفظ بلونه، وثيابه ليست مغبره وحذاؤه قد جف عنه الطين، لمحته من بعيد يسابق الجميع قبل أن يقترب من المرأة، مد يده أمسك بالطفل الصغير جره عنها مد يده الثانية حاول الإمساك بحقيبتها التي على كتفها الأيمن لكنه خطف المحفظة الحمراء وطارد رجليه وهرب، صرخت أنا وصرخت المرأة وتعالى الصراخ وتردد هو بالعودة حاولت اللحاق به فأخفقت ولم تسعفني جراحي التي التهب قانيها، انتفضت (جميلة) وقد عرفت اسمها من المارة، وكانت أجمل من اسمها الذي تغرب وتغبر؛ وألقت كل ما تحمل عن كاهلها ولحقت به وهي تصرخ بأعلى صوتها ..
_ خذ عمري كله وأعد لي محفظتي أيها الشرير فهي كل ما أملك …
تلاشى الصوت وتلاشينا جميعا وتناثرت كل الصور التي كانت المحفظة قد حبلت بها على الرمال المتحركة ملطخة بالأشلاء والدماء النقية الدافئة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى