آخر النساء المحترمات…قصة قصيرة بقلم المحامي محمد حسن -سورية -حلب
آخر النساء المحترمات…قصة قصيرة بقلم المحامي محمد حسن -سورية -حلب
عندما وضعت الحرب بعض أوزارها؛ بدأ الناس بترميم أنفسهم ليعيدوا ترتيب الحياة التي التهمت حتى خيوط العنكبوت، ولتتمكن من رسم مستقبل أفضل يعانق حلما، ويلبس ثوب النسيان .
كان وليد من عشرات الآلاف الذين هجروا لهيب النار المشتعلة في كل الأماكن، والتي غدت تلتهم كل الأحلام، وتقض مضجع الاستقرار، وتأذن لمستقبل روضته الفوضى وأزكت ناره وحوش الظلام والفتنة .
ودع محبوبته على أمل اللقاء، لم تكن خطواته تسابق الرحيل ولم يكن ظهره الذي حناه الظلم يصالب الانكسار، وأن أحلامه التي تمرد عليها الواقع كان يطمح أن تزهر بالرحيل على شروق حالم، وغَدٍ أفضل في بلاد الاغتراب .
ودعته ليلى من بعيد، لم يكن العفاف يسمح لها سوى أن ترسل له الشوق والحنين، وهي تتوق إلى كسر المسافات، وحرق كل المراحل وكل رزنامات الفلك، والتيمن بذاك اللقاء وجبر خاطر كل لحظات الانتظار .
_ حبيبتي وصلت بعد عناء .. اشتقتك .. أنا متعب .
_ الحمد لله على سلامتك يا مهجة الروح وروضة الفؤاد .. أحبك بعدد الرمل والحصى والتراب .
مرت الأيام ثقالا عليهما وهي تحتضن وسادتها الغارقة بالدموع وهو يحاول بلسمة جراح البعد ومسح أرق دموعها بمزيد من نداه وهو يستجدي ضحكاتها؛ بما رتب لها من مفاجآت سارة.
كانت يتناسيان معا ذكرى ماض رحل دون عودة وبلا مكوث .
_ جميل هو بيتنا، فرشه على الطراز الغربي تروقني صوره التي أرسلتها وجدا .
_ حبيبتي.. أنهيت كل الأوراق وقريبا نحتفل معا على نافذته المطلة على كل الشرق .
مرت الأيام ببطء، حاول بكل ما يستطيع أن يخلق لنفسه كل الفرص التي تمنحه رمق، وعمل في كل المجالات ليوفر فسحة أمل وحرم نفسه من كل أطايب الدنيا، وهو يرسم لنفسه ملامح حياة سوف تزهر حين يتمكن من لم شمل معشوقته المنتظرة بفارغ الصبر .
_ زهرتي التي أشتاق فوحها .. كل الأمور على ما يرام، انتظرتك حتى عجز مني الانتظار وهاهو ذا البدر قد اكتمل .
_ أحبك .. أريد أن أنجب منك طفلين وطفلتين .
كان الشتاء قد ودع أنفاسه وطوى في جعبته شهور الجليد دون التفات وترك خلفه ربيعاً يعيد الطمأنينة لتلك البلاد التي تفتقد الدفء، ويرسم ملامح حياة لاتشبه الشرق .
استطاع وليد صنع طاقة ورد جميلة من تلك الزنابق الباردة الملونة، بكل ألوان الربيع.. ولكن من دون فوح..
كتب اسم حبيبته ليلى بدمه على السلفانة، ولم ينسى الشريط الليلكي المحلزن الذي أعطته إياه ليلى قبل الرحيل؛ ليكون عربون عهد ووعد لآخر العمر .
مضى مسرعا بسيارته، إلى المطار لاستقبال زوجته.
وهو يحلم بجمر اللقاء، كان يرسم لنفسه صورة بهاء يكسر بها كل التقاليد ليعانق الشوق عن قرب، ويتخطى كل الخطوط الحمراء أمام كل الملأ وينتشي ويتنفس الصعداء .
غدا الطريق طويلا والسيارة تدمر كل المسافات، وتلتهم في طريقها كل الخطوط البيضاء والمطر اشتاق ربوع المكان، محملا بالبرد الذي أخذ يجلد زجاج السيارة ليثنيها عن سرعتها الجنونية، لكن وليد كان متعطشا للارتواء ولم يكترث لعودة الشتاء ثانية .
وصل قاعة الانتظار وهو يحمل باقة الورد الشفافة كروحه والتي لفتت أنظار كل المنتظرين، أخذ من بعيد يرقب وجوه الواصلين عله يعانق الحلم ويرشف معه نخب اللقاء، اشتم رائحتها التي لم تبرحه منذ أن غادرها من بعيد وقبل أن تشرق إليه؛ حمل قلبه النابض والذي أخذ يتسارع به الخفقان .
حين لمحها من بعيد؛ جف ريقه، تكسرت حنجرته، سال لعابه، اتسعت أحداقه، ترنحت هامته وعبق جسده، وتملّكه الارتجاف .
_ يالله .. إنها هي تزداد جمالا وروعة، الذهب الذي يعانق زنديها بريقه مغري .. لا أكاد أصدق .. الآن اكتمل الحلم ورفرف الفرح .
باقة الزنابق الوردية الملونة ماتزال في يده وقد أغفاها النعاس وبهتت ألوانها والعاصفة خارج أسوار المطار ترتعد، وحضنه المفتوح لم يجد من يحضنه.. وليلى!
عبرت وليد..
إلى آخر الرواق وهو محدق بها لايصدق، مشدوه أنها لم تلتفت، وهي تطير وتحط في أحضان شاب وسيم خطفها ورحلا معا .
كان المؤذن وسط صالة المطار يدعو الناس لصلاة الفجر والمصلون بدؤوا بالاصطفاف، وتلك المرأة الشقراء ترتب حجابها وتستعجل ركنها.
ووليد يحاول اغتيال خيباته، يستجدي دموعه، ينظر إلى الهلال ويرمق الصليب ويتمعن الشمعدان، ويتلمس مثلث الاستفهام، ويرتجي الخروج من جلده ويحاول الثأر من ذاته واستمر يحاول، لكنه تلاشى ولم يستطع .