(يهوه).. هناك .…قصة قصيرة بقلم عبدالله عبدالإله باسلامه – اليمن .


(يهوه).. هناك .…قصة قصيرة بقلم عبدالله عبدالإله باسلامه – اليمن .

(يهوه).. هناك .
خاب ظني حين لم أجدها في مكانها المعتاد داخل مكتبتي، حيث يطيب لها الجلوس على كرسيها الجلدي الأسود تحت مينوارة الشمعدان سباعي الرؤوس، تطالع كتبي، وتراجع مؤلفاتي، وترتب أوراقي وكتاباتي… تفقدتها في حجرات البيت دون أثر لها، شعرت بالقلق .. وبالغرابة حين ناديتها لتجيبي من حديقة البيت وهي كامنة بين شجرتي الغرقد المفضلتين لدي في حديقتي الوارفة، هرعت نازلا السلم وخلعت الطليس من فوق كتفي ودثرتها به، جلست بجانبها، أحيطها بذراعي، أدفئها بحناني :
- آه .. يا ابنتي لوتعلمين كم كانت أياما صعبة.. صرت كالمجنون.. لم يغمض لي جفن وابنتي بين يدي مجرمين انتزعوا الرضع من أحضان أمهاتهم، قطعوا رؤوسهم وأحرقوهم..اغتصبوا النساء و..
فاجأتني وهي تنزع رأسها من صدري وتقول كأنها تنهرني: - أبي .. لا تردد كلاما لم يحدث.
- اااا… لقد حدث يا ابنتي أنت لا تعرفين ماذا فعلوا…
التفتت إلي بحدة: - لو اغتصبوا النساء لكان الأحرى بهم أن يغتصبونا ونحن أسيرات بين أيديهم داخل الأنفاق.. كف عن الكذب.
بالكاد استطعت رسم ابتسامة على شفتي وأنا أشعر كأن نصلا يغوص في أمعائي :
- ح حسنا .. ما علينا ..المهم أنك هنا محمية آمنة في بيتي .
- وهناك كنت محمية وآمنة .. أنتم من كان مصدر الخطر .
حدقت في وجهها دهشا على هزيل الضوء القادم من نافذة البيت العلوية، وشعور تقطع احشائي يزداد حدة.. أخذت أتحسس رأسها أتلو من بركات داوود وبعض التعاويذ، وانا أعض على شفتي قلقا، وألما، وحسرة لا تختلف عما كابدته لحظة سماعي خبر هجوم حماس على كريات شمونة ومستوطنات غلاف غزة صباح ذلك السبت الأسود، وأن ابنتي أسرت مع عشرات الجنود .
يومها لم يقر لي قرار، أو يغمض لي جفن. شعرت بالتمزق لأول مرة على ما يجري من حرق وسحق للبشر والحجر في غزة خوفا من أن تصاب ابنتي الوحيدة تحت رحى آلتنا العسكرية المدمرة التي لطالما دعمتها، وشجعتها ودعوتها إلى مهاجمة الغزاوزة، وعدم الرحمة أو الرأفة بهم، بل أني كنت أسميها آلة الرب التي تمثل إرادته في تحقيق وعده لأحبابه وأوليائه باستخلاف الأرض …كانت ابنتي أكبر المؤمنين بي، وذراعي اليمنى وأمين سري، ومن يتولى عقد كل مؤتمراتي واجتماعاتي، تنظم زيارات المريدين، وتنشر لي وتدافع عني ضد الملحدين الذين يسمون أنفسهم جناح اليسار والاعتدال، والذين خشيت على مكانتي من أن تهتز أمامهم، وأن يستغلوا مصيبتي لو خرجت بنفسي وطالبت بيبي نتن ياهو بإيقاف الحرب من أجل إعادة الأسرى وإنقاذ ابنتي، فأوعزت إلى طلابي وخاصة مريدي بالاعتصام والتظاهر أمام مبنى الحكومة، وظللت اتنقل كالمجنون ألاحق المسؤولين طوال شهر كامل دون جدوى، لولا أن قامت كتائب القسام بمبادرة إنسانية، عادت على إثرها ابنتي، ليمتلئ قلبي الشاغر .
لكن.. شعرت لحظة ضممتها إلى صدري كأن مخالب فولاذية تنتزع قلبي وترميه خارج صدري فقد تملصت من بين ذراعي مبتعدة، لتغرق في صمتها وبرودها، ثم ترفض إقامة حفلة استقبال أعددتها فرحا بها، والأمر من ذلك كله انزعاجها من أسراب الطائرات التي تروح بطانا بالقنابل والصواريخ وتغدوا خماصا…لم أك لأملك غير أن أبتلع مرارتي وأكتم هواجسي وأطلق زفرات حرى نائحا متأوها:
- آه.. لهفي عليك يا ابنتي ..ماذا فعل بك المجرمون؟ هل سحروك؟
لترد علي بحسم كأنها ترميني بالرصاص: - لم يسحروني.. لقد كانوا أناسا طبيعيين وليسوا وحوشا..كانوا يخافون علينا أكثر من خوفهم على أنفسهم .. كانوا في قمة الفداء لأرضهم والوفاء لرفاقهم في سجوننا.
هتفت بغضب مستنكرا: - أولئك ليسوا بشرا.. بل حيوانات هم أعداء يهوه .
- دعك من يهوه فهو ليس هنا.
- حبا بالله .. هل صبأت؟
شهقت فزعا وأنا أتراجع الى الوراء، أحدق في ابنتي كأني أراها لأول مرة، مالبثت أن أطلقت تنهيده حرى، وأعدت رأسها إلى صدري أجتر حسرتي بصمت.
فبادرتني بصوت خافت وحازم : - أنا لست مريضة يا أبي.. لم أصب بصدمة نفسية كما يحاول الأطباء أن يوهموك.
ارتعد جسدي كأنما باغتتني عاريا، هاهي كعهدي بها شديدة الذكاء، قوية الشخصية، تقرأ أفكاري، وتعرف نقاط ضعفي، ونواياي، هاهي تقطع آخر أمل لي كنت أعلل به نفسي.. أما هي فاستطردت بغضب وحيرة:
- كيف لشعب الله المختار أن يكون مكروها؟! و من العالم كله؟! لماذا حشرنا الرب إذا كان يحبنا في مكان ليس لنا ؟ وعرضنا لهزيمة نكراء على يد جماعة مسحوقة.. أبي الرب ليس هنا بل هناك .
هتفت متسائلا بارتياع وأنا أحدق في الفراغ حيث تشير بسبابتها: - الرب !!.. أين هناك ؟
ردت علي مؤكدة بثقة: - هناك تحت الأرض، في الأنفاق المطمورة بالتراب الغارقة بالماء والدماء، تحت الركام والأنقاض، رأيته يمدهم بالأكسجين، والصبر، والقوة ليعودوا أقوى مما كانوا.
نهضت كأنما لدغتني عقربة، وقبل أن أقرر ماذا أفعل، وكيف أتصرف، وبماذا أجيبها دوت صفارات الإنذار، وبدأت السماء تتوهج بانفجارات الصواريخ والصواريخ المضادة ..مددت إليها يدي مذعورا:
- دعينا من هذا الكلام الفارغ ..وهيا ..هيا نهرب إلى الملجأ بسرعة .
التقطت يدي الممدودة المرتجفة وبدلا من أن تجري معي نحو الملجأ استوقفتني ممسكة بي من كتفي، أخذت أحدق في بؤبؤي عينيها اللتين عكستا ألوان النار القادمة من السماء وقالت :
- إلى متى سنظل نهرب ونختبئ؟ أنت تعرف جيدا أن الملجأ الآمن لنا هو الحقيقة .
أظلمت الدنيا من حولي، وارتجفت أطرافي وشفتاي، وعجزت عن القيام بأي حركة .. بينما مسحت هي على ذقني الكثيفة الشعثاء برفق، والتفتت مغادرة المكان وتركتني واقفا كالمصعوق، وحيدا بين شجرتي الغرقد .