“نقوش لا تفنى” : مجموعة قصصية و قصة قصيرةللأديب الدكتور خالد العجماوي – جمهورية مصر العربية ….قراءة الأستاذة مريم الراشدي-المملكة المغربية



لطالما راعني مظهره؛ منكفئٌ على لوح في يده؛ يدق عليه في عناية. دقاً لا أدري هل كان عنيفا أم رقيقا، و لكنه بدا منغمسا كأنها من دق شغافه.
كان اليوم قائظا، وذرات الغبار تموج في الفضاءات حرة وهي تهيج الأنفاس. مررت عليهم فسخروا مني. كعادتهم. لا سبيل إلى هداهم. تناتبني رعشة من شك: هل لا سبيل إليهم، أم أنني المخبول؟ أطرد عن نفسي وساوسها، وأعود مسرعا خطاي نحو المؤمنين.
ثمة دقات كذلك ها هنا. ولكن الدق أعنف وأشد. تتشابك الأيدي والأصابع وهي تحمل ألواح الخشب، تتضافر جدائل الصوف والشعر لتضمها كبنيان مرصوص. الجدائل مفتولة متينة، والعزائم صلبة لا تلين.
لم يعد أمامنا إلا ثلاثة أيام. هل نحن مخابيل؟ أنظر إلى السماء فيكاد قرص الشمس أن يخطف نور عيني. هل ستنتقم لنا الغيوم؟ هل يغطيها السحاب؟ أظل أشد خيوط الصوف بما أوتيت من عزم. ظللت منهمكا وذلك الوجه المنكفئ على لوحه لا يكاد يفارقني.
في الصباح عزمت أمري. قررت أن أواجهه. أحب ذلك الرجل. لا أعرفه، ولكن بريق عينه وهو يدق على اللوح يشدني!
في الطريق سخروا مني. وجدته في مكانه. اقتربت. كان يدق نقوشا صغيرة ودقيقة. ليست رسما. بيد أنها بدت لي جميلة. ما الذي يمنع مثل ذلك الرجل أن يؤمن؟ لا أرى فيه جحودا، كما أن بريق عينه يوحي بصدق ما!
أخبرته في الأخير. سردت عليه ما أعرف من حقيقة. لم يتبق إلا يومان. وجدته ينتفض. سألني وعيناه تبرقان بوميض الوجل:

  • طوفان؟
  • ستغرق المخاليق كلها، إلا المؤمنون.
  • المؤمنون؟
  • ينجون من العذاب.
  • هل يخلدون؟
  • هو ذاك.
    شرد ببصره في الفضاء حوله. تركني وبدأ يدق في لوحه الصغير.
    انتابني منه الغضب. لم يبد عليه أي إمارة من إيمان. ربما مكتوب أن يكون مع الهالكين. ما اسمه؟ نسيت أن أسأله.
    أصبح الصرح مهيبا هائلا، كحوت يتجهز للسباحة، وينتظر أن يأتيه المحيط. لم تفارقني الملامح. بريق العينين. يداه وهي تدق على اللوح في عناية.
    في المساء أقمنا صلاة طويلة. لم يعد ثمة ملاذ للهالكين. نظرنا إلى السماء فوجدناها صافية، بيد أن صلاتنا قد أوحت إلينا بأن الجزاء صار قريبا.
    وجدته يركض من بعيد. وهو يحمل في يديه ألواحا من الطين، ويجر ساقيه وسط الرمال كمجدافين يدفعان الموج. لما تلاقت عيوننا صرخ. كأنه ناج وجد جبلا يعصمه من الماء. رأيته يقدم إليّ الألواح في عناية.
    نظرت إليها مستغربا. سألته:
  • ستهلك إذا!
  • هل ستنجو الألواح؟
  • انج بنفسك وألواحك.. أ لا تريد الإيمان؟
    برقت عيناه، قال وهو ينظر إلى الألواح في وجل:
  • أريد لها الخلود.
    ذهب وتركها معي. نظرت إلى السماء فوجدت البدر مكتملا، وإن بدا مكتسيا ببعض الغيوم.
    حملت بين يدي ألواحه التي أراد لها النجاة. نظرت إلى النقوش. بدت دقيقة. تعجبت في نفسي: ما الذي يدفع ذلك الرجل أن يحفظ تلك الألواح الإثنى عشر؟ طاف بي أحد المؤمنين وهو يلملم حاجته كي يستعد للصعود على متن الصرح العظيم. حملت إليه إحدى الألواح وأنا أسأله إن كان يفهم شيئا منها. تمعن فيها للحظات، قال كأنه يستنطق نقشا:
  • جل..جا..مش!

“نقوش لا تفنى” مجموعة قصصية لأديبنا خالد العجماوي تتألف من ست عشرة قصة قصيرة متفاوتة الطول لكنها تبقى منتمية لهذه الفئة بامتياز.. وقد جاءت القصة الثامنة بنفس العنوة وكأنها أيقونة هذا العقد المرصع بأجمل آيات الإبداع، تتوسطه لتتربع على عرش المجموعة بأكملها عتبةً، فجاءت بالفعل نقوشا مائزة وإن شاء الله لا تفنى في مسار الأستاذ العجماوي..

يتميز خط هذا الأديب بأربع خاصيات مهمة :

  1. سيادة الرؤية المصاحبة أو الملازمة في معظم النصوص القصصية إن لم تكن أو إن لم نقل كلها،
  2. سيادة الحدث المتكرر مع مفاجأة القفلات والذي حوله تكبر كبة السرد حتى تصل إلى ذروتها ثم انحدارها.. أضف إلى ذلك، جميعُ شخصياته الحكائية محوريةٌ وتتناول، بالتناوب المتوازي، مواضيعَ قصصِه، سلبا وإيجابًا، إلى آخر نفس..
  3. الزمن الحكائي متراوح بين زمن الأسطورة وزمن “الحداثة” وما بعدها..
  4. اعتماد السردين المتسلسل والمتقطع أثناء الكتابة..

يتميز خط الكاتب خالد العجماوي كذلك بكونه السهل الممتنع، العميق الرفيع، المرصوص البديع مع اللجوء إلى النكتة الساخرة الصارخة.. كما يعمل على حمل قرّائه على لوح نظرته للمواضيع حتى يقنعنا بها فترانا ننتظر ونعيش معه أحداث القصص بخصوصياتها ولحظاتها.. فندخل البيوت ونخضُر الحوارات وأحيانا كثيرة نتوقع أجزاء من الحوار وننتظر النهايات من فرط التناغم مع السرد..

هناك بعض القصص، في جمالها، تطرب أكثر من بعض، وإن كُنَّ جميعهن لا يتخيّرن عن بعض.. وقد راقت لي القصة الثامنة لما حضنت من جمال يراع وجاء فيها ما يلي:

العتبة “نقوش لا تفتى” ثلاثية لفظية، رباعية في الأصل.. “نقوش” خبر نكرة لمبتدئ محذوف وصارت لها الجملة الفعلية المنفية “لا تفنى” نعتا لأنها بعد نكرة.. فلِمَ جاءت “نقوش” نكرةً يا ترى؟ وفيمَ هي “نقوش” ؟ وكيف أنها “لا تفنى” ؟!

ففي هذه القصة، يسير بنا السارد بشخصيات مجهولة الهوية والاسم والمكان والزمان.. لكنها تواكبنا ونواكبها الانكفاءَ على ما تفعله من حبك خيوط الحكمة ومجريات الحياة العامة.. بين التصوف والعالم المادي الذي يحيط بها ويجذبنا إليه، طوفانا، بشتى المغريات ووسائل الغرق في الملذات حد البذخ والترف.. وبالتالي تفشي الشر بمقاييسه العظمى التي نلحظ تضخمها وإيقاعها المتعالي والعصي على الضبط في هذا الزمن..

والخلفية دينية، كلٌّ منا منكفٍ على لوحِه يؤثث كتابَه.. فما النجاةُ من ذاك الطوفان إلا بالتوارث السامي للأسس السليمة والقيم الأخلاقية العالية إذ الصحبة الصالحة هي المعين على الطاعة للخالق في منتهى الأمر، والاستقامةُ والسير على النهج السليم.. وهنا تناص وازن مع “واصبر على نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. 28/ الكهف— أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار..”31/الكهف..

أعتقد جازمة أن كاتبنا قد جعل سارده يمتطي الملحمة الأسطورية چيلگامش ليخلُص إلى أن الصديق الصدوق هو المتنزه عن الخداع وذو أخلاق حميدة إذ إن الصداقة هي البذرة الرفيعة التي تنبت وتبرعم رغم صعوبة المناخ وفقر التربة من جهة وتأتي فاكهتها طيبة من جهة أخرى.. وبالتوارث، تكون البذرة المستقبلية.. وبالتالي هي الضامن للسلالة الراقية في ما بعد.. وما ذاك “البدر المكتمل” الذي رآه ساردنا بعد أن استلم اللوح إلا الضوء اللازم لاستكمال المسير فيكون عونا للشمس على إتمام دورها هي الأخرى في دورة الحياة.. والحياة، دون ذلك، لا تستقيم..

لهذا كان ذكاء شديدا من أديبنا أن يستعير الألواح الإثني عشر من القانون الروماني لما فيهن من إشارة إلى النصوص والتشريعات التي تضبط الحياة المدنية وتسعى جميعها لاستتباب أمن المواطن وضمان عيشه الكريم..

فإن نحن أسقطنا هذا على ما يجري اليوم على الأرض، سواء منها المحتلة أو المنطقة المجاورة أو هما معا وكذلك في كل بؤرة تشكو من نفس الآلام، فلن ينجو “طوفان” المقاومة إلا بالاستمساك بالحقوق السامية المنصوص عليها في الشرائع والتي ترفض الانصياع للقبح وللشر المستفزيْن استفزازا شديدا للمواثيق الإنسانية كلها وللأصوات الصداحة برفع الظلم من جهة.. وما يدعم الفساد والأذى وما يحمل على التنصل من هذه التشريعات بقوة العتاد وكثرة النفير وكذا فساد العزيمة بالاصطفاف على رصيف الخذلان من جهة أخرى..

أما عن نهاية القصة.. فنجد أديبنا قد أتقن غرزة العتبة “نقوش لا تفنى” باستنطاق نقش”جل..جا..مش”.. فبعد كل التساؤلات العميقة والجوهرية التي طرحها فلسفيا واجتماعيا وانسانيا والفراغات التي بثها، واضعا أصبعه على مكامن الفراغ الفاحش والثغرات المتعمدة والهفوات المميتة في قوانين المنظومات الحالية، لا يسعنا إلا أن نقول إن “نقوش” الحق وأصحابه بالفعل “لا تفنى”.. فما ضاع حق وراءه طالب.. فإذا تظافرت الجهود من أجل الخير.. حتما ظفرت..

دام العطاء المائز أديبنا الراقي الأستاذ خالد العجماوي..
مسيرة مشرقة مشرفة إن شاء الله

مريم الراشدي

اقرأ باقي العدد ١٥

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى