“من أجلها” …قصة قصيرة بقلم محمد كمال سالم
“من أجلها” …قصة قصيرة بقلم محمد كمال سالم
سمحوا له بنافذة تطل على السماء فقط، لم يبتئس؛ فلا شئ عليها يستحق الرثاء؛ فماذا على الأرض إلا التراب والدم.
الطعام يشتريه من ماله الخاص، لكن شهيته إلى الطعام تتلاشى يوما بعد يوم، يعيش على السجائر معظم الوقت، يجدُ فيها متنفسه الوحيد وسلواه.
سمحوا له أيضا بهاتف يحمل أثيرا جوالا، يجول في كل مكان، فهو ذو حيثية اجتماعية ويجب أن يكون له بعض الاستثنائات.
لكنه لم يرسل هذا الأثير إلا لمكان واحد معظم الوقت، إلى بيته وزوجته؛ حبيبته التي هو هنا من أجلها.
تضع له جوالها على قطعة أثاث مواجهة لسريرها حسب أوامره، تترك الكاميرا الخاصة بالهاتف مفتوحة في بث مباشر له طوال الوقت، تحدثه تحكي له كل شئ:
_ شوفت العفش الجديد، إيه رأيك في سريرنا حلو ههههه
_ اصرفي واتمتعي انتي والعيال، الفلوس انتي اللي عارفة مكانها، اوعي تحطي فلوس في البنك … هما العيال فين؟
_ عند ماما، بيحبوا يقعدوا عندها وهي مابتقدرش تستغنى عنهم، شوفت قميص نومي اللي انت بتحبه ههههه، اشتريت منه كل الألوان علشانك.
تبكي في ألم ودلال، تغنج: واحشني يا روحي، لسة الطريق طويل وفراق طويل، إعمل أي حاجة حبيبي وتعالى في حضني.
تجلده كلماتها بصيات من عجز، يبتلع دموعه ويحدق في صورتها الآتية عبر الأثير.
تستلق على سريرها أمامه، تتفنن في إظهار مفاتن جسدها الصاخب، بقميصها القصير ولونه الساخن، هي تعرف كيف تدغدغ أعصابه، وكيف تستولي على مشاعره، كم صب لها في أذنيها كل ليلة كلمات العشق، كم عانقها وهو يصف مفاتنها؛ شَعرُكِ، ثغرك، جيدك، خصرك، ابتسمي حتى أرى ثناياك اللولية، دعيني أتذوقهم.
كل ليلة يهيم ممذقا بين الذكرى الحية، والصورة الممدوجة في هاتفه الصغير عبر الأثير، يذوب مثل السيجارة تحترق بين أنامله، فكر كثيرا أن يأمرها أن تتوقف عن بث صورتها إليه، لكنه خشيَّ مرارة الإشتياق.
في الزيارة الأخيرة احتضنها طويلا، أتت إليه بطفليه انهال عليهما تقبيلا، كأنه يراهما للمرة الأخيرة في حياته، تركت له مبلغا محترما من المال في الأمانات.
مع مرور الوقت
أصبحت شاشة الهاتف، تبيت كثيرا خالية من صورتها، كلما سألها عن غيابها، تذرعت بحجج لا يصدقها، وما زاد شكوكه فيها أنه لاحظ أن الكاميرا التي تصورها تتحرك، كأن أحد يحملها! في هذه الليلة أظلمت الغرفة تماما وراحت صورة السرير، ساد صمت قاتل في الغرفة، إلا من همهمات تأت من خارجها، حاول أن يميزها دون جدوى، تعاظم في ضميره شعور بالغدر، ومع بزوغ النهار لما ظهرت، راح يستجوبها دون أن يخلص معها لنتيجة.
وفي نفس هذه الليلة، وهي تحاول أن تثير شهوته بعريها ودلالها، تحاول أن تصرف عنه الشك، يلق مصباح الغرفة، بظل رجل غريب على السرير.
يسقط منهارا وكأنه يهوي من السماء السابعة، يحطم الهاتف في الجدار، يدرك أنه ضحَّى بما تبقى من عمره سدىَ، يمرض، يتوقف عن الطعام والكلام.
يأتيه بعد أسابيع قليلة إخطار من المحكمة بدعوى أقامتها تطلب الطلاق.