مصر وعجز الأيدولوجيات ….مقال بقلم د.أحمد دبيان


مصر وعجز الأيدولوجيات ….مقال بقلم د.أحمد دبيان

مذ بدأت مصر مشروعها الحداثى الأول بعد قرون من العجز الظلامى الذى ساهم فيه مماليك التقزم والغزو العثمانى حين أتى الباشا محمد على والذى كان لا يخلو أن يكون مستبدا شرقيا بآفاق تنويرية لخدمة مشروعه لتكوين إمبراطورية إقليمية تستلهم خطى من سبقوه من ولاة غير مصريين فهموا حوار التاريخ والجغرافيا منذ بدأ الطولونى والإخشيدي مشروعهما ليلحقهما الفاطمى والأيوبى فى مشاريعهما لخلق إمبراطورية إقليمية من باطن الخلافة العباسية العاجزة والتى توجت عجزها بالغزو الفرنجى للشرق.
لم يكن الباشا يحمل أيدولوجية بعينها إلا كونه مستبدا تنويريا تم دعمه من القوة الفرنسية المهزومة فى الشرق ومحاولة احتواء القوة المنافسة الإنجليزية له لتأمين إمبراطوريتها الهندية درة تاجها وخزينة ثرواتها.
كان للإشتراكية الخيالية والسان سيمونيين الفضل فى توجيهه لتملك وسائل الإنتاج لخدمة مشروعه وإن لم ينعكس ذلك شعبويا على الطبقات الفقيرة المهمشة والتى لم يكن لوجودها أى اعتبار فى مشروعه فكانت ثورات الصعيد وثورات العربان المقاومة لهيمنة الاستبداد محاولة وضع المهمشين فى قلب المعادلة.
انتهى مشروع الباشا بجنونه ووفاته وقبلهما انحسار إمبراطوريته بقبوله بنود معاهدة لندن وفرمان الخليفة ليعقبه المد الرجعى الوهابى الأول بتصدر الوالى عباس الأول أو الحاج عباس الأول واطلاقه المد الوهابى فى المحروسة بتخصيص عامود فى الأزهر لأحد أولاد آل شيخ محمد بن عبد الوهاب لينتشر الجنين المتسلف الأول فى مصر الصوفية بموروثها الفرعونى ، المسيحى والإسلامى.
عجزت الأيدولوجية الإشتراكية الخيالية عن إحداث أى تغيير مجتمعى قاعديا ولم تخلو من معادلة رجل أبيض متفوق مع شعب ثالث أو رابع أو خامس يروضه.
مع تولى الوالى سعيد واختراقه من قبل توابع الخياليين اللصوصى ديلسبس انتهاءا بالخديوى إسماعيل حاولت مصر السلطة تبنى المشروع الليبرالى الحداثى والذى جاء معه -عرضا جانبيا – مع انفتاحها الفرنسى التثور البورجوازي ، فكان المشروع الليبرالى الذى انتهى باستدعاء المحتل لقمع التثور البورجوازى ممثلا فى ثورة عرابى والذى استلهم الكومونة فى عام سيطرته (اليتيم ) على مقدرات الدولة ؛ حين استدعى الخائن توفيق الإمبريالية العالمية لقمع الحراك التشاركي الذى سيطر فيه فلاحو عرابى على أراضى الإقطاعيين و مجتمع النصف الأول ؛ لننتهى لرجعية احتلال حاول تصدير الحدث كونه أداة الحاكم لتوطيد حكمه ضد تثوير لم يلقَ حتى دعم الرجل الأوروبى المريض والذى انتهى بإعلانه عصيان عرابى ليسبغ الشرعية على الخائن والمحتل.
انتهى الأمر بإعلان الحماية وإعلان السلطنة المصرية ليأتى المد الثورى بورجوازيا مرةً أخرى بحراك ١٩١٩ حين رأت الرأسمالية المصرية تهديدًا لوجودها ، وظل المهمشون خارج معادلة الاصلاح وإن أسبغوا كل آمالهم وطموحاتهم على فلاح شبه إقطاعى تبددت ثورة عائلته وعاقر الخمر والميسر فجعلوه رمزا لحراكهم ومطامحهم الثورية !!.
بدأ الحديث عن مشروع مصر الحداثى الليبرالى مع العشرينيات ليصحبه -وللدهشة – ظهور السلفية رسمياً عام ١٩٢٦ ، مع تأسيس منظمة أنصار السنة. وظهرت الإسلاموية بعد ذلك بوقت قصير مع إنشاء جماعة الإخوان المسلمين في عام ١٩٢٨.
لم يستطع الحراك الليبرالى القضاء على التسلف العقلى وظل التبنى الليبرالى محصورا فى طبقات عليا أرستقراطية لم تمتزج جماهيريا وظل التيار اليسارى الماركسى محصورا فى أجانب متمصرين عاجزين عن الالتحام الجماهيرى وإن انتقلت افكارهم جزئيا إلى حراكات النقابات العمالية.
ظلت الرجعية والسلفية العقلية مهيمنة على ممثلى ما يدعى بالتيار الليبرالى فكان قرار حل الحزب الشيوعى أحد أهم قرارات حكومة الوفد السعدية التى أعقبت حراك ١٩١٩.
وفى أوج تصدر ما يسمى بالحراك الليبرالى المصرى فى الأربعينيات والتى شهدت تصاعد الحركات الإسلاموية تم اغتيال الدكتور إسماعيل أدهم.
كان إسماعيل أدهم كاتبا مصريا ، ولد بالإسكندرية وتعلم بها، ثم أحرز الدكتوراه في العلوم من جامعة موسكو عام ١٩٣١ ، وقد عين مدرسًا للرياضيات في جامعة سانت بطرسبرغ، ثم انتقل إلى تركيا فكان مدرساً للرياضيات في معهد أتاتورك بأنقرة، ثم عاد إلى مصر عام ١٩٣٦. وهو من الكُتاب المسلمين سابقا الذين أعلنوا إلحادهم وكتبوا فيه ودافعوا عن أفكارهم. وله في ذلك كتيّب بعنوان «لماذا أنا ملحد؟». وقد أعلن في هذا الكتيب أنه سعيد مطمئن لهذا الإلحاد، تماما كما يشعر المؤمن بالله بالسعادة والسكينة.
و دون الدخول فى نقاط اختلافنا مع الأفكار الالحادية له ، يظل اغتيال الكاتب إسماعيل أدهم شاهدا على تغلغل التيار الرجعى السلفى فى مصر حتى مع زخم ما يتم الادعاء إنه أوج الحقب الليبرالية فى مصر.
و جاءت الخمسينات ومدها الثورى ليتم تبنى مشروع تملك الدولة لأدوات الانتاج والإشتراكية العلمية المصرية ما يتم اصطلاحا أو تجاوزا تسميتها بالناصرية ، ليتم تمصير الشركات وتأميم رأس المال الأجنبى ووكلائه من المتعاونين المصريين وليتم ولأول مرة وربما للمرة الأخيرة وضع المهمشين والذين ظلوا لقرون خارج أى معادلة أن يكونوا قلب الحدث وقالبه ، تم وضعهم ليتصدروا المشهد النهضوى ويتم منحهم تشاركية التوزيع الثرواتى ووضعهم فى منظومة تصاعد ودفع اجتماعى لا تحكمه السدة التى رسخها الفراعين والغزاة من بعدهم .
حاولت الثورة صنع تنظيم سياسى يحمى ذلك التغيير الكبير ولينتهى الأمر كما العادة بتسلل الانتهازيين الذين تسلقوا واخترقوا أحزاب مصر فيما يسمى بالحقبة الليبرالية من قبل.
انتهى المشروع الأيديولوجي الاشتراكى الاجتماعى فى مصر بوفاة الزعيم جمال عبد الناصر ، ليتبنى خلفه مشروع قيادة الثورة المضادة بكل عنفوان رجعيتها ولينتهى الأمر بتمدد وتصدر بل وهيمنة التيار الإسلاموى الرجعى على المشهد ، ليتم اختراق العقل الجمعى المصرى فى أكبر منظومة غسيل عقلى جمعى ، وليتبتى الجميع بكل ادعاءات انتماءاتهم الأيديولوجية ذلك الخطاب الرجعى الماضوى المتسلف.
فنجد ملاحدة متسلفين لا يخلو خطابهم من سذاجة الحنق واسقاط معاناة مطامحم مع القوة الإيمانية التى لم تلبى مطامعهم أو مطامحهم.
ولنجد كيمتيين متسلفين بماضوية فرعونية متحفية أو ليبراليّين !!!
و ينصب هجومهم على الدين بتعاطيه الوسطى أو المتطرف دون تمييز مع عدم التطرق أبدا للتسلف الصهيونى .
أو نجد يسارا أناركياً لا يتبنى إلا تسلف الهدم والتقويض دون وجود أيديولوجية أو نهج للالتحام بالجماهير أو لتأسيس ما قد يؤطر لأي بناء مستقبلى.
ويظل تصدر التيار الاسلاموى الرجعى المتسلط متغلغلا فى العقل الجمعى المصرى مع كل تشدقات الأيديولوجية المدعاه وليتصدر هذا الخطاب المشهد السياسى رغم زخم الادعاءات بمحاولة تقليم أظافره.
كنا نمنى النفس سابقا بأن مصر فى مفترق طرق ستهتدى لطريق بعده، لنجد أنفسنا لا زلنا فى سنوات تيه خمسينى نفتش داخل كومات القش فيه عن مجرد نقطة بداية.