مسلسلة تاريخية من مجموعة ” كل الفضاء” للأديب محمد كمال سالم : “الطاغية”- الحلقة الأولى


مسلسلة تاريخية من مجموعة ” كل الفضاء” للأديب محمد كمال سالم
“الطاغية”- الحلقة الأولى

على ربوةٍ عتيقة خضراء، ضمن رُبى صنعاء الكثيرة، كان يقبع قصرٌ منيفٌ رائعُ البنيان، بتفاصيل جميلةٍ تُسحر الألباب، حديقته غنّاء، وجدرانه بيضاء في صفاءٍ مزدانة بالعقيق الأحمر، أبوابه صارمة منيعة، ونعومة زخرفها تدلّ على مهارة صانعيها، وقبابه عالية شاهقة مرصعة بالأحجار الكريمة، كأنها مرسلة أو معلقة في السماء.
وفي ليلةٍ غاب عنها القمر، شقّ سكون القصر صرخاتُ الحرس:
(وامصيبتاه، واضيعتاه! سُرق السيف! سُرق السيف!)
وعلى إثر تلك الصرخات، وقف “أبرهة الأشرم” على باب مخدعه، هاملاً جواريه الحسان وسباياه، يصيح في الخدم هلعاً:
ماذا يجري هنا؟ لعنة أبرهة العظيم عليكم! أحد الخدم (خائفاً يرتعد): لا أدري يا مولاي، لا أدري. صارخاً: آتني بكبير الحرس هنا حالًا!
_مهرولاً فزعًا: أمرُ قداستك، أمرُ قداستك.
محدثاً نفسه:
(فطنةُ أبرهة تحدثه أن أمراً جللًا قد وقع الليلة).
يأتي كبيرُ الحراس مسرعاً، تعلوه إمارات الخوف والقلق، ينحني بين يدي سيده:
مولاي أبرهة العظيم! سيصبّ أبرهة الويل عليكم صبًّا، إن لم تخبرني بما يحدث الآن في قصري، أم أنك عنه غافلٌ ومغفل؟
(يعتدل قائمًا ولكن في وجل):
_لقد سُرق سيفُ سبأ، سيدي.
تتسع عينا أبرهة في غضبٍ وحنق، حتى أصبح وجهه مرعباً، يقبض على كبير الحرس من مفرق ثوبه، قائلاً:
وأين كنتَ وحرسك يا ابن البائسة؟! (يرتجف بين يديه): كنت أتفقد حرس أبواب القصر، سيدي، ولم ألحظ شيئًا غير عادي. أقسم بقداسة مولاي أبرهة العظيم.
يدفعه أبرهة في عنف، غاضباً ومحدقاً فيه، كأنما اكتشف شيئاً، وراح يتحسس لحيته المرصعة بالجواهر، ثم أردف محدّثًا نفسه:
(المكاربة… لم يفعلها سوى المكاربة. ما زالوا يعتقدون في أسطورتهم القديمة. يعتقدون أن حصولهم على سيف سبأ هو ما سيمكنهم من استعادة ملكهم وزوال ملكي. كذلك يعتقدون!).
ثم يصيح غاضباً، مسمعاً أرجاء القصر:
_كلا، هم واهمون! من ذا الذي يستطيع أن ينزع ملك أبرهة العظيم؟! أبرهة الذي أذعن النجاشي لسطوته، واستقل بمُلك اليمن وحده! وغدًا تُذعن ممالك العرب إليه جميعًا! أوَتستطيع تلك الشرذمة أن تهدد ملكي؟! هاهاها!
(يضحك كالمجنون في هيستيرية وسخرية)، ثم يوجه كلامه إلى كبير الحرس قائلاً:
_اسمع يا لعين! اذهب وابحث في كل صنعاء، وفي كل بيت للمكاربة! لا تُبقِ على شيءٍ في بيوتهم! انزع أسقفهم عنهم، وآتني بالسيف وسارقه حيًا!
كان يقول هذا بصوتٍ خفيض، كفحيح الثعابين، وهو يحدق في عينيه، ثم صاح فيه:
_اذهب!
(يفرّ كبير الحرس من أمام أبرهة فرار المرء من المجذوم، أو كفراره من الموت).
في تلك الأثناء…
يدخل (مِعدكارن) على أبيه (ذِي يَزَن) وأمه (ريحانة).
يسأله ذو يزن:
_ما بالك بُني مكفهرًّا هكذا؟! وما الذي تخفيه بين ثيابك هذا؟!
(يفتح معدكارن عباءته، كاشفًا عما قد طواه تحتها، فإذا هو سيف سبأ الجميل).
ما هذا يا ولدي؟! أهو…؟! نعم يا أبتي، هذا هو مجدنا، هذا هو سيفنا، سيف سبأ العظيم!
(ريحانة، في هلع):
آهٍ يا ربي! أهو السيف الذي كان في قصر الطاغية؟! معدكارن: أجل يا أمي! وقد سرقته من بين براثن حراسه الأشداء.
_ذي يزن: وكيف فعلتَ هذا وحدك، بُني؟!
(يتابع في قلق): سيُنكل بنا الطاغية أبرهة! بل سيُنكل بكل المكاربة!
ريحانة: يا ويلتي! ماذا عساي أن أفعل؟! أخشى أن أفقدك، ولدي!
(ذي يزن، عازماً):
_ليس لنا بقاءٌ بعد الآن في صنعاء.
معدكارن: ونترك صنعاء، يا أبتي؟! أجل، نترك صنعاء. أظنك تدرك من هو أبرهة وجنوده! سنغادر الآن.
_ريحانة (باكيةً): إلى أين يا ذي يزن؟! أوَتتركني؟!
_ذي يزن: سنرحل إلى اليمامة. وفي الصباح، اذهبي إلى بيت أختك (بَدار) وانتظري رسلي إليك.
(يلملم ذو يزن بعض المتاع والزاد، وينتزع ولده الذي ظل واقفًا يتأمل أمه الباكية، ويأخذه ويخرج به هارباً).
وما إن غادر ذو يزن وولده، وريحانة ما زالت على حالها تبكي، حتى طُرِق الباب طرقًا عنيفًا، ثم انتُزع من مكانه انتزاعًا، وصار جنود أبرهة في صحن البيت، يحيطون بريحانة، التي التف حولها بعض جواريها وخدمها، خائفين عليها.
هامش:
(المكاربة: هم سلالة مملكة سبأ الموحدين المتعاقبين، ويقال إنهم علية قوم اليمن القديم وسلالة الملكة بلقيس).
يتبع… إن شاء الله