“ماهية الإبداع بين المكاشفة والتحرر “دراسة نقدية لقصيدة “أرحامُ الحياة”للشاعرة/ د.ريهان القمرينقد وتحليل / أسامة نور

العمرُ يمضي و الحياةُ عناءُ
صيفٌ خريفٌ ، و الربيعُ شتاءُ

كل سَيَفْنى في الحياةِ لأنَّها
زيفٌ …وما للتابعين بقاءُ

مَلِكٌ سيخلعُ مُلكَه ، تحت الثرى
تتعادلُ الألقابُ و الأسماءُ

كل سيؤكلُ في طعامِ دويدةٍ
القلبُ و العينانِ و الأحشاءُ


قلبي كطفلٍ سارحٍ بين الربى
يعدو و يقفزُ مثلما العدَّاءُ

غَنَّى مع الأطيارِ يرقبُ سربَها
واخضوضرت في خطوِنا الصحراءُ

طارتْ فراشاتٌ تُحَلِّقُ حَولَنا
وتوقفتْ من أجلِنا الأنواءُ

لكنَّها الدنيا تُبَدِّلُ حلمنا
دوما تسود ال ح ر بُ و البغضاءُ


يا قلب يُعقل أن تفيض محبةً
فيعود في سهمِ الحقودِ جزاءُ ؟

الغشُ يحكمُ و الضمائرُ بيننا
تحتَلُّها الأطماعُ و الوسطاءُ

عشتُ الحياةَ و كلُّ همي أن أرى
صدقَ الورى ؛ لكنني حمقاءُ

بانَ الكذوبُ أمامَ عيني ؛ فامَّحَى
وازداد فوقَ الغربةِ الغرباءُ

وُئِدتْ بقلبي طفلتي حتى طَغَتْ
تلك العجوزُ المرأةُ الخَرْساءُ

واعتدتُ أمشي في الطريقِ غريبةً
كم أرهقتْ أسماعيَ الضوضاءُ

أيقنتُ أني و الأنا بسفينتي
ويقودُ ذاتيَ نورُها و سماءُ


كيف الشموع تُضاءُ في وَسطِ الدجى
إن لم يَكُن بين اليدين ضياءُ ؟!

هذا السؤالُ المستمرُ جوابُهُ
جعلَ المحالَ يقينُه إعياءُ

وتظلُّ روحي في السؤالِ حبيسةً
وجوابُه بين الضلوعِ شقاءُ

لكنني لا أستسيغُ هزيمةً
حتمًا سيق ت حمُ الظلامَ سناءُ

أزهو …و أرحام الحياةِ تبوحُ لي :
” إن النماءَ جذورُه حَوَّاءُ “

مهما نراها في احتراقٍ كاملٍ
بين الرمادِ ستولدُ العنقاءُ

مقدمة :-
إن الإبداع ترجمة للمشاعر والعواطف ، والواقع الذي يعيشه الإنسان ..والشاعر يختلف عن غيره؛ لأن لديه شعورًا فطريًا وإحساسًا مرهفًا، وموهبة من الله سبحانه وتعالى تجعله قادرًا على التعبير عن خلجات النفس البشرية وعواطفها ، وعن الواقع ،كما أنه يصوغ مشاعره وفكره بحيث تتماس مع الآخر ، وتجد صدى لدى المتلقي والسامع …
و في رأيي أن “كل شاعر فيلسوف ،وليس كل فيلسوف شاعر ” …
فهل يكون الفن للفن والمتعة فقط كما ذهبت نظرية الفن للفن ،أم يكون الفن للمجتمع ومعالجة قضاياه ومشكلاته دون التقيد بفنيات الإبداع .
لا شك أن الفن والآدب هما مرآة المجتمع ، وقلبه النابض ..
وميزانه الذي يبصر ويوجه ويرشد …
ولكن كلما كان الفن والأدب يعليان من شأن المجتمع ويعالجان القضايا المجتمعية والوطنية والإقليمية ..مع
الاهتمام بالجماليات والفنيات وتحقيق الإمتاع ..كان الإبداع
متحققًا والفائدة قائمة.
لهذا فمن رأيي” أن الإبداع شرط في العمل الأدبي مهما كان غرضه . “
ومن سمات الإبداع التجديد على مستوى البنيةوالمضمون ،واختلاف زاوية التناول ،ومكاشفة الوجدان بطرح جديد،وآلية تعبيرية غير نمطية ،مشتقة من رؤية تتوازى مع المشاعر الوجدانية ؛ تبعث الخلق الإبداعي ،الحركة والتناغم والتنغيم داخل النص ،وتحقق الدهشة والإمتاع ..بحيث يتماس معها المتلقي ،وتشكل اللاوعي الجمعي .
فيكون بمثابة زاوية إنعكاس لبقعة ضوء صوتية تتمادى في الأفق الذهني ،والوجداني له..
والشعر هو فن التعبير الذاتي ،وكلما أتقن الشاعر التعبيرعن ذاته ،تأثر الآخر به وتماس معه ،فتتسع الحالة الذاتية لتصبح توجهًا تعبيريًا عامًا.
فالشعر خاص لكنه يعبر عن التشكيل الوجداني العام . عن ديناميكية الذات وتمردها والرغبة و المكاشفة والتحرر .
———-؛؛؛؛؛؛؛———

** ” العنوان ودلالته “
العنوان “أرحام الحياة ” أرحام جمع رحم خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه ..والحياة مضاف إليه مجرور
العنوان مجازي ..يدعو إلى التفكر والتأمل في الحياة ،وتعاقب الأجيال فيها ، وحالهم منذ الولادة حتى الممات ..إنها فلسفة الحياة والموت ..دعوة إلى الميتافيزيقيا
وإعمال العقل والتأمل في الإنثروبولوجيا ..علاقة الفرد بنفسه وبالمجتمع ..
إن الحديث عن الموت ..وماهية الحياة شغل الكثير من الفلاسفة والشعراء والكتاب ..وكان ركيزة رئيسة في إبداعهم
وهنا نتذكر رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ..ونتذكر لوركا الشاعر الإسباني ، رواية أديبنا الكبير نجيب محفوظ “حديث الصباح والمساء “
عنوان مؤثر ذهنيًا وعاطفيًا ..مما يجعله عتبة رئيسة من عتبات النص ، ومحفزًا على قراءته وتأمله .
——–؛؛؛؛———
**من حيث الشكل والموسيقى :-
ينتمي النص من حيث الشكل إلى الشعر العمودي حيث وحدة الوزن والقافية ..فجاء النص على بحر الكامل التام من استخدام الزخافات والعلل لهذا البحر ..
متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن
وبحر الكامل من البحور الصافية ، يمتاز بموسيقاه الجزلة ..
وقوته لذا يمكن من خلاله التعبير عن المشاعر والأفكار بعمق
وخيال خصيب ..
جاء الإيقاع هادئًا متموجًا ليلائم حالة التأمل ..والتفكر
والفلسفة والحكمة في النص ..
ونجد ذلك في :-
العمرُ يمضي و الحياةُ عناءُ
صيفٌ خريفٌ ، و الربيعُ شتاءُ

كل سَيَفْنى في الحياةِ لأنَّها
زيفٌ …وما للتابعين بقاءُ

مَلِكٌ سيخلعُ مُلكَه ، تحت الثرى
تتعادلُ الألقابُ و الأسماءُ

كل سيؤكلُ في طعامِ دويدةٍ
القلبُ و العينانِ و الأحشاءُ
ونجد كذلك استخدام التصريع في البيت الأول :-
العمرُ يمضي و الحياةُ عناءُ
صيفٌ خريفٌ ، و الربيعُ شتاءُ
جاءت القافية موحدة، وحرف رويها الهمزة مضمومة الحركة
ومخرج الهمزة من أقصى الحلق، مما يوحي بالعناء، امتزاج الألم الداخلي بالألم الخارجي ..ويدل على الصدق الشعوري
ومن صفات حرف الهمزة (الجهر، الشدة ،الانفتاح .. من دلالاته شدة الألم ،الانفعال،الاضطراب ..القلق ،التوتر ،الحيرة ..يعطي جرسًا صوتيًا ..وله وقع في النفس ..
لهذا جاءت الموسيقى الخارجية مؤثرة ..
والموسيقى الداخلية كان لها الأثر في تشكيل الصراع ..
وبعث حالة التأمل ..وامتزاج العاطفة والفكر ،
ونجد ذلك في حسن التقسيم في البيت الأول :-
العمرُ يمضي و الحياةُ عناءُ
صيفٌ خريفٌ ، و الربيعُ شتاءُ
وكذلك في قولها :-
الغشُ يحكمُ و الضمائرُ بيننا
تحتَلُّها الأطماعُ و الوسطاءُ
وفي :-
الغشُ يحكمُ و الضمائرُ بيننا
تحتَلُّها الأطماعُ و الوسطاءُ
ونجد الجناس في :-
ملك ..ملكه ، الغربة ،الغرباء ،..
وكذلك في استخدام الجمل المتناسقة ، والصور ، والتركيب الشعرية ..
————؛؛؛؛؛؛———-
**”من حيث “المضمون والتجربة الشعرية “
تبدأ الشاعرة قصيدتها بأبيات تحوى الفلسفة والحكمة ، بأسلوب سلس ..واتخاذ التضاد وسيلة لتقوية المعنى
وللتأثير العاطفي ،وإثارة الذهن ، فتقول :-
العمرُ يمضي و الحياةُ عناءُ
صيفٌ خريفٌ ، و الربيعُ شتاءُ

كل سَيَفْنى في الحياةِ لأنَّها
زيفٌ …وما للتابعين بقاءُ

مَلِكٌ سيخلعُ مُلكَه ، تحت الثرى
تتعادلُ الألقابُ و الأسماءُ

كل سيؤكلُ في طعامِ دويدةٍ
القلبُ و العينانِ و الأحشاءُ
فالبداية واحدة ،والنهاية واحدة ..لكن ما بعد نهاية الحياة الدنيوية هو الأهم والأبقى ..
ثم تنتقل الشاعرة من الحديث عن العام إلى الخاص ،قلبها ،طفولتها ،أحلامها ، تبدل الحال فتقول :-
قلبي كطفلٍ سارحٍ بين الربى
يعدو و يقفزُ مثلما العدَّاءُ

غَنَّى مع الأطيارِ يرقبُ سربَها
واخضوضرت في خطوِنا الصحراءُ

طارتْ فراشاتٌ تُحَلِّقُ حَولَنا
وتوقفتْ من أجلِنا الأنواءُ

لكنَّها الدنيا تُبَدِّلُ حلمنا
دوما تسود ال ح ر بُ و البغضاء
ثم تنتقل في مقطع آخر ، لتسأل قلبها -في حيرة وصراع نفسي – لماذا يقابل الناس الحسنة بالسيئة ؟، تحكمنا الأهواء والميول ، حتى هرمنا وأصابنا الوهن النفسي ، وفقدنا شغف الحياة ؛لما نصارعه..في معاملة الآخرين فتقول ::
يا قلب يُعقل أن تفيض محبةً
فيعود في سهمِ الحقودِ جزاءُ ؟

الغشُ يحكمُ و الضمائرُ بيننا
تحتَلُّها الأطماعُ و الوسطاءُ

عشتُ الحياةَ و كلُّ همي أن أرى
صدقَ الورى ؛ لكنني حمقاءُ

بانَ الكذوبُ أمامَ عيني ؛ فامَّحَى
وازداد فوقَ الغربةِ الغرباءُ

وُئِدتْ بقلبي طفلتي حتى طَغَتْ
تلك العجوزُ المرأةُ الخَرْساءُ

واعتدتُ أمشي في الطريقِ غريبةً
كم أرهقتْ أسماعيَ الضوضاءُ .
تستمر الشاعرة في حيرتها ،وتساؤلاتها ..
لكنها تلملم شتات نفسها ، عازمة على الصمود ، فهي المرأة القوية ..هي سر الحياة والخصوبة والنماء ،
فتقول :-
كيف الشموع تُضاءُ في وَسطِ الدجى
إن لم يَكُن بين اليدين ضياءُ ؟!

هذا السؤالُ المستمرُ جوابُهُ
جعلَ المحالَ يقينُه إعياءُ

وتظلُّ روحي في السؤالِ حبيسةً
وجوابُه بين الضلوعِ شقاءُ

لكنني لا أستسيغُ هزيمةً
حتمًا سيق ت حمُ الظلامَ سناءُ

أزهو …و أرحام الحياةِ تبوحُ لي :
” إن النماءَ جذورُه حَوَّاءُ “

مهما نراها في احتراقٍ كاملٍ
بين الرمادِ ستولدُ العنقاءُ
تساؤلات تبعث الحيرة والقلق ، كيف الخلاص ،ولماذا نعيش في ظلمة الخداع والكذب والهوان ، ونأبى العيش في صدق ووفاء وسلام ..
هنا يأتي ميكانزم داخلي والاستدراك” لكن ” الذي يأتي معه العزيمة والثقة ورفض الهزيمة ..
فهي المرأة القوية إنها أصل الحياة ،ورمز الخصوبة والنماء
لكنني لا أستسيغُ هزيمةً
حتمًا سيق ت حمُ الظلامَ سناءُ
فهي تزهو بأنها الأصل ..وبأنها قوة وإرادة ونماء..
أزهو …و أرحام الحياةِ تبوحُ لي :
” إن النماءَ جذورُه حَوَّاءُ “
ونلحظ هنا التضمين في شطر البيت الثاني “إن النماء جذوره حواء ” وهو جزء من قصيدة الشاعر العراقي “زهير بهنام بردى” وضعتة الشاعرة بين علامتي تنصيص؛ لتنبه القارئ إنا ضمنت شطرًا لبيت الشاعر في قصيدتها ؛لانه توافق مع مضمون قصيدتها ومعناها ..ويتوافق مع رؤيتها وطبيعتها الأنثوية .
——–؛؛؛؛؛؛؛؛؛———-
***من حيث اللغة والأساليب و فنيات الإبداع
استخدمت الشاعرة اللغة الحية السلسة ،المعبرة عن المضمون بدقة ، كما نوعت بين الأساليب الخبرية للتقرير
مثل :-” العمرُ يمضي و الحياةُ عناءُ”
وكل سيؤكلُ في طعامِ دويدةٍ
والأساليب الإنشائية لإثارة الذهن وجذب المتلقي كما في النداء المصحوب بالاستفهام للتعجب والاستنكار
يا قلب يُعقل أن تفيض محبةً
فيعود في سهمِ الحقودِ جزاءُ ؟
وفي :-
كيف الشموع تُضاءُ في وَسطِ الدجى.
إن لم يَكُن بين اليدين ضياءُ ؟!
للتعجب والنفي والتأكيد على ضرورة ربط السبب بالمسب

الصورة لها دوركبير في نقل الحالة الشعورية والرؤية للمتلقي
وهي أهم فنيات النص الشعري ، لهذا نجد حضور الصورة ، ومناسبتها للحالة النفسية والشعورية ..لكن نجد ندرتها في المقطع الأول الذي غلبت فيه الحكمة والذهنية والتقريرية على العاطفة والخيال ..
ثم نجدها حاضرة في بقية النص ؛ليتصاعد الخيال ويشكل مع اللغة والأساليب والموسيقى تناغمًا وحركة وحيوية ، أكسب النص روحًا ثائرة متمردة ، تسعى نحو التحرر من سطوة الواقع ؛ لترقى في فضاءات النور ،
وفي ذلك نجد قولها :-

قلبي كطفلٍ سارحٍ بين الربى /يعدو و يقفزُ مثلما العدَّاءُ

وتوقفتْ من أجلِنا الأنواءُ/فيعود في سهمِ الحقودِ جزاءُ ؟
أزهو …و أرحام الحياةِ تبوحُ لي : /” إن النماءَ جذورُه حَوَّاءُ


نجد كذلك ..المحسنات البديعية ..وقد اعتمدت الشاعرة على التضاد والمقابلة ؛لتقوية المعنى ،و إظهار الفرق بين الحالات المتعدده
ومن ذلك ” صيف خريف ،والربيع شتاء / سيفنى ،بقاء / طارت ،توقفت / محبة ،الحقود / صدق ،الكذوب / طفلتي ،العجوز / الدجى ،ضياء / الظلام ،سناء .
نلحظ الاعتماد على التضاء والمقابلة ، والذي طغى على التصوير أحيانًا ..من أجل ترسيخ الحالة وإظهار المعاناة ..
“فالضد يظهر حسنه الضد “
النص مكاشفة للواقع ،ورفض لما فيه ، محاولة للتغيير ..
تظهر خلاله روح الشاعرة الساعية للكمال ..نلحظ الصدق الفني والشعوري ، وإيمان الشاعرة بدور الشعر في معالجة قضايا المجتمع ، والحث على القيم والأخلاق ..وهنا يتجى قول الشاعر :-
“أرى الشعراء إن صلحوا خيالًا
هداة الحق مثل الأنبياء “
المؤثرات داخل النص :-
نجد المؤثرات داخل النص ،فنحد مؤثرات الصوت في :- غنى / الضوضاء / سيقتحم / تبوح /
وتظهر مؤثرات الضوء في نورها ،ضياء ،الشموع تضاء / احتراق /
وتظهر الحركة وأبعادها في / العمر يمضي / يخلع / تتعادل / يعدو ويفز / تحلق / واعتدت أمشي /
————-؛؛؛؛؛؛؛—————
قصيدة رائعة يظهر فيها سمو المضمون ..ودقة اللغة ..والوحدة العضوية والفنية والحركة والتناغم الصوتي
مما جعل النص يتماس مع الآخر , ويؤثر فيه ..
دعوة النفس والآخر ؛للعودة للإنسانية ،إعلاء الذات وبنظرة أوسع للمشهد ؛لنتخير الطريق الصحيح ..قصيدة تزخر بالقضايا والأطروحات المختلفة في إطار فني جمالي ، يتسم بثبات الشكل مع حداثة المضمون
وبالصدق العاطفي والفني .
تحياتي :- أسامـة نـور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى