( لغة الشعر) -جديد-(مِنْ) فوزية شاهين …. دراسة نقدية أكاديمية من الأستاذ عبد الله جمعة


( لغة الشعر) -جديد-(مِنْ) فوزية شاهين …. دراسة نقدية أكاديمية من الأستاذ عبد الله جمعة
قصيدة ( .. لن تغيبي .. ) للشاعرة فوزية شاهين “القصيدة في رثاء والدتها رحمة الله عليها ”
أوَّاه يا قلبًا يمزِّقُه الأسَى
لفراقِ من سهِرتْ عليكَ لتحرُسَا
الآهُ في كبدي تروحُ وتغتدي
وعلى ضفافِ العمرِ حزنٌ قد رسَا
دمعي كموجِ البحرِ بعد فراقِها
والعينُ من طولِ البُكا لن تنعسَا
جفَّتْ ينابيعُ السعادةِ في دمي
وربيعُ عمري بالبعادِ تيبَّسَا
والشَّهدُ من بعد الحلاوةِ والطَّلا
قد صارَ مراً في دمائي مُغمسَا
بالأمسِ قد أبصرتِني جبلاً أشماً …
..صارَ من بعدِ الرَّحيلِ مُنكَّسَا
جيشٌ من الآلامِ يغزو مُهجتي
وظننتُ أنِّي في العنا لن أُحبسَا
لكنَّه أسرَ السعادةَ والهنا
وعلى ضلوعي قد نوى أن يجلسَا
صلبَ المواجعَ فوقَ ظهري كيف لي
أحيا وعمري بالعناءِ تقوَّسَا ؟؟؟؟
هبَّتْ رياحُ الفقدِ تعصفُ جنَّتي
وأنا على حُممِ الرَّدَى مُتوجسَا
أُخفي دموعي بينَ حباتِ النَّدى
صُبْحي يُجمَّدُني ويحرقُني المسَا
وأقولُ من قطفَ الورودَ وعطرَها
والياسمينَ وفلَّها والنرجسَا ؟؟؟؟
من يا ربيعَ العمرِ أنبتَ في فمي
آهاتِه وعلى فؤادي قد قسَا ؟؟
لما يُجبْ سُؤلي وأنجزَ أمرَ مَنْ
بيديه يُحيي أو يُميتُ الأنُفسَا
يا ليتَه إمَّا تذكرني قُبيلَ …
..رحيلِها أو بعدَ تكليفٍ ( نسى )

(لغة الشعر) {جديد}
[(مِنْ) فوزية شاهين]دراسة نقدية أكاديمية للأستاذ عبد الله جمعة
ملحوظة دالَّة قبل البدء: (فوزية) هنا في العنوان تُعْرَبُ في باب الإضافة لا في باب المجرور بحرف الجر.
عزيزي الشاعر! ألا فاعلم أنك قد حُمِّلْتَ أمانة الكلمة، وما تنسجه إنما هو نسج للغة شرَّفَها القرآن، وعدم إتقانها يضيعها على لسان من يتلقى إنتاجَك الشعري فتفسد ذوقه دون أن تدري ومن ثم تضيع عليه حلاوة تذوق نَصِّ الله المُقَدَّس الذي يحمل ذات اللغة، لذلك فالأوجب عليك أن تهتم بما تنسج وتدرسه جيِّدًا حتى إذا نسجتَه أصبح قويمًا قادرًا على التعبير المنضبط، واعلم أن هناك نظرية أطلقتُ عليها (التفسُّخ النصِّي) تتمثل في عدم قدرة البناء الشعري اللغوي على حمل المعاني بصورة جيدة مما يُفسد المعنى والمبنى كليهما؛ فأما فساد المعنى فهو عدم بلوغه متلقيه، وأما فساد المبنى فضياع تذوقه عند المتلقي وتشويه ما استقر من مراده في كتاب الله ولغة العرب بِحَرْفِكَ معناه عما أُرِيد منه.
إن تبعة حمل لواء الشعر تبعة ثقيلة لا يقدر عليها حاملُ الفطرة النقية فقط وإنما أيضًا حامل اللغة النقية القوية التي تمثل صنعة الشعر التي لا غنى له عنها.
وعلى الشاعر إن أراد أن يكون مجيدًا قادرًا على امتلاك مقود هذه اللغة المُشَرَّفَة أن يتعلمها ويتقنَها ويعلم كيف تُبنى وتُنسجُ منها الجُمَلُ وعليه أيضًا أن يدرك دلالات مبانيها ومرامي معانيها فينال بذلك الاستحسان عند رب اللغة وأهلها، فهذا قول رسولك الكريم: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” وهو حديث صحيح في الصحيحين وغيرهما، وما مدارسة القرآن ابتداءً إلا لغة فمن أتقنها فَهِمَه ومن لم يتقنها غام عنه، ومما ورد على لسان عيسى عليه السلام: “من عَلِمَ وعَمَلَ وعَلَّمَ يُدعَى في الملكوت عظيمًا”، فاحمل أمانتك أيها الشاعر واعكف على لغتك حتى تبلغ منها ما استطعت لتقدم ما يفيد الناس ويحسِّنُ ذائقتهم.
ومن ذلك أن تلمَّ – على سبيل المثال- بمعاني الحروف التي تستعملها وألا تستهين بها فقد يُفقِدُ الاستعمالُ غير السليم لها المعاني ويَحرِفُها عن مرادها.
إنني من خلال متابعاتي لمنتوج الشعراء الآنيين أعثر بين أكوام الشعر المتراصة والمتناثرة في كل الأركان الواقعية والافتراضية شعراء قليلين بلغوا مبالغ آمنةً في استعمال اللغة ومن ثم فإننا نأمنُ لهم ونأخذ عنهم ونشجع الناس على الإنصات إليهم بل وتعلُّم اللغة على أشعارهم؛ لأنهم أصبحوا مأمونين عليها. وحتى لا يتفلَّت هؤلاء الشعراء من بين أيدينا فإن ضمائرنا تُوجِبُ علينا أن نشيرَ إلى إبداعاتهم حتى نبعدَهم ونُسَوِّجَهُم بعيدًا عن الغث الكثير الذي نراه وتفوح رائحته تزكم الأنوف.
إن الحروف في اللغة لها معانٍ تؤثر في النسج الدرامي للمعنى الجُمْلي وسوف ألقي الضوء هنا على حرف واحد من هذه الحروف لعلَّ الله يهديني إلى تقديم معانيها كلها من خلال استعمال هؤلاء الشعراء المتقنين.
اليوم سوف أتحدث عن بعض استعمالات حرف الجر (مِنْ) وكيف يمكن توظيفها لخدمة المعنى الشعري بل يمتد لخدمة المعنى اللُّغوي الذي يستعمله الناس أيضًا.
يقول صاحب (مُغْنِي اللبيب) “إن (مِنْ) تأتي على خمسةَ عشرَ وجهًا” [المغني ص229] … وإنني هنا سوف أسلط الضوء على ثلاثة معانٍ لأبيِّنَ كيف يُسْتَعملُ هذا الحرفُ وكيف أن هناك من الشعراء القليلين الذين ذكرتُهم قد بلغ حد ذلك الاستعمال بمهارة وإتقان فأحسن إلى شعره وأحسن إلى لغته ومن ثم فقد أحسن إلى كتابه المقدس فنال مثوبة من استقام لسانُهم على يديه حين يتلقفون شعره بالترديد واستعمال مفرداته في حياتهم اليومية كما نستعمل جُمَل وحِكَم المتنبي وأمثاله إلى يومنا هذا.
سأعرض قصيدة للشاعرة المصرية (فوزية شاهين) وأبين كيف وظفت هذا الحرف بهذه المعاني الثلاثة بنسج محكم فأدى الحرف ما عليه بقوة تعبيرية أدت وظيفتها في التلقي:
تقول في قصيدة لها بعنوان (لن تغيبي) من ديوانها (ما لم تقله الخنساء) وهي قصيدة رثائية في رثاء أمها:
أَوَّاهُ يا قلبًا يمزقه الأسى
لفراقِ من سهرتْ عليك لتحرُسَا
الآه في كبدي تروح وتغتدي
وعلى ضفاف العمر حزنٌ قد رسا
دمعي كموج البحر بعد فراقها
والعين (مِنْ) طول البكا لن تنعسا
جفت ينابيع السعادة في دمي
وربيع عمري بالبعاد تيبسا
والشهد (مِنْ) بعد الحلاوة والطلا
قد صار مُرًّا في دمائي مغمسا
بالأمس قد أبصرتني جبلاً أشما
صار (مِنْ) بعد الرحيل منكسا
جيش (مِنَ) الآلام يغزو مهجتي
وظننت أني في العنا لن أحبسا
لكنه أسر السعادة والهنا
وعلى ضلوعي كم نوى أن يجلسا
صلب المواجع فوق ظهري كيف لي
أحيا وعمري بالعناء تقوسا
هبت رياح الفقد تعصف جنتي
وأنا على حمم الردى متوجسا
أخفي دموعي بين حبات الندى
صبحي يجمدني ويحرقني المسا
وأقول مَنْ قطف الورود وعطرها
والياسمين وفلها والنرجسا
مَنْ يا ربيع العمر أنبت في فمي
آهاته وعلى فؤادي قد قسا
لما يجب سؤلي وأنجز أمر مَنْ
بيديه يحيي أو يميت الأنفسا
يا ليته إما تذكرني قبيل …
رحيلها أو بعد تكليف نسى
وبرغم أن النص يحمل زخمًا تعبيريًّا يُوقَفُ عليه طويلاً في العملية التفسيرية إلا أنني من أنصار (الشرائح) الذين يختارون شريحة أو قطاعًا من النص للتركيز عليه وذلك عندي أجدى وأنفع من أن أفتح باب النص على مصراعيه لا أستطيع السيطرة عليه فأنهش من كل قطاع نَهْشَةً وأترك أمعاءه مُعَرَّاة لا أستطيع لها رَتْقًا فأقدم تفسيرًا أشعثَ غير منتظم لا يغني ولا يسمن المتلقي، لذلك فسوف أقف هنا في هذا النص على استعمال الشاعرة لحرف الجر (مِنْ) وكيف وظفته توظيفًا قويمًا يليق بدراما المعنى الذي تريد أن تمرره ويخدمها فمررته من خلال هذا الحرف.
استعمل هذا الحرف في النص أربع مرات بثلاثة معانٍ مختلفة.
(المرة الأولى) في قولها:
دمعي كموج البحر بعد فراقها
والعين (مِنْ) طول البكا لن تنعسا
ورد هنا في أحد معانيه الخمسة عشر التي ذكرها (ابن هشام) وهو معنى (التعليل):
هي تبكي أمها بغزارة وفي حال من التَّحَسُّر على فقدها فجعلت طول البكا سببًا في عدم النعاس “فالعين بسبب طول البكا لن تنعسا”، هنا أتوقف لأسأل: هل كان من الممكن أن تقول الشاعرة: “فالعين لطول البكا لن تنعسا”؟ قطعًا سأرد على من يدعي: إن الوزن هو ما أجبرها على استعمال (مِنْ) لأنها لو استعملت (اللام) لاختلَّ الميزان فأقول: دعك من الوزن الشعري الذي هو أحد أهم ضوابط المعنى ولهذا بحوث طويلة قدمتها في كتابي (مكامن الإبداع) عن إسهامات الوزن الشعري في ضبط المعاني، ولكني هنا أسأل عن المعنى.. بالقطع لا برغم اشتراك (اللام) و (مِنْ) في دلالة السببية؛ فهي إن قالت: “لطول البكا” فقد فتحت الباب للمشاركة بمعنى أن العين ستترك النعاس بسبب طول البكا وبسبب غيره وأما في استعمالها “مِنْ” فقد حصرت سبب قلة النُّعاس منتزعًا من سبب واحد هو طول البكا وحده لا شريك له مُسْتَغِلَّةً دلالةَ (النَّزْع) التي يحملها حرف الجر (مِنْ) والبكاء هنا قطعًا لفقد أمها.
وأما (المرة الثانية) فقد استعملت فيها الشاعرة حرف الجر (مِنْ) بمعنى (ابتداء الغاية) مرتين وذلك في قولها:
والشهد (مِنْ) بعد الحلاوة والطلا
قد صار مُرًّا في دمائي مغمسا
بالأمس قد أبصرتني جبلاً أشما
صار (مِنْ) بعد الرحيل منكسا
وهما مرتان متتاليتان وكأنها تركز على ذلك المعنى الذي سيؤثر في النهاية على دراما الحدث الشعري فيجعل المرارة والانتكاس دائمين لا ينقطعان عنها بعد فقد أمها وكذلك حصر ما بقي من حياتها في تلك الدائرة الضيقة من الحياة.
يقول صاحب (المُغْنِي) في معنى ابتداء الغاية: “وهو الغالب عليها حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه وتقع بهذا المعنى في غير الزمان نحو “مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَاْمِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى” [الإسراء 1] و “إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَاْنَ” [النمل 30]، قال الكوفيون: والأخفش والمبرد وابن دُرُستُوريه: وفي الزمان أيضًا بدليل “مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ” [التوبة 108] وفي الحديث: “فمُطِرْنَا من الجمعة إلى الجمعة” وقال النابغة:
تُخُيِّرْنَ من أزمان يوم حليمة … إلى اليوم قد جَرَّبْنَ كل التجارب
وجاء في شرح الرضي على الشافية: “كثيرًا ما يجري في كلامهم أن (مِنْ) لابتداء الغاية و (إلى) لانتهاء الغاية ولفظ الغاية تستعمل بمعنى النهاية وبمعنى المدى والمراد بالغاية في قولهم (ابتداء الغاية وانتهاء الغاية) جميع المسافة إذ لا معنىً لابتداء النهاية وانتهاء البداية” [شرح الرضي 2 / 355]وبالنظر إلى المعنى الذي استعملته الشاعرة في البيتين السالفين سنجد أنها تعني معنى (ابتداء الغاية) الذي أوردته “فالشهد من بعد الحلاوة قد صار مُرًّا مغمسا”؛ أي منذ ابتداء نهاية الحلاوة- تعني حياة أمها- وابتداء الفقد ابتدأت غاية المرارة التي لن تنتهي وستظل دائمة.
وكذلك في قولها: ” بالأمس قد أبصرتني جبلاً أشما صار (مِنْ) بعد الرحيل منكسا” فهي التي كانت تباهي بقوتها وعنفوانها وجبروتها في مواجهة الحياة بكل معاناتها إلا أن هذا الحدث قد كسر شوكتها وجعلها ابتداءً من غاية الرحيل منكسة لا تستطيع أن ترفع هامتها.
ثم تأتي (المرة الثالثة) في قولها:
جيش (مِنَ) الآلام يغزو مهجتي
وظننت أني في العنا لن أحبسا
وفي هذه المرة جاء حرف الجر (مِنْ) بمعنيين كلاهما يُجيزُ المراد ويصل به إلى المتلقي بمنتهى السلاسة على التوازي:
(ا) معنى التبعيض:
وذلك نحو قوله تعالى: “وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ” [الحج 11] وقوله: “وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاْةِ الدُّنْيَا” [البقرة 204]وهذا المعنى أصيل في نسج الشاعرة في قولها: “جيشٌ مِنَ الآلام يغزو مهجتي” وفيه تهويل للألم الذي أصابها فبعض من الآلام التي تأتيها هي جيش جرار يهاجمها ويغزو أحاسيسها فإن كان بعض الآلام جيش فما بالنا بكل الآلام.
(ب) معنى الجنس:
نحو قولك: “عندي خاتم مِنْ ذهب”؛ أي جنس الخاتم ذهب.
وهذا المعنى مستقيم أيضًا في استعمال الشاعرة وكأنها تقول: إن ذلك الجيش الذي يهاجمني ويسد عليَّ الأفق إنما هو من جنس الآلام.
غاية الأمر؛ فإني أريد أن أقول إن الشاعر الذي يتقن لغته فهو الأكثر إرضاءً لربه لأنه حفظ لغته وحافظ عليها وهو كذلك الأبقى والأخلد فهو الشاعر المؤهل لينهل البحث الأكاديمي من حياضه الثرية ومن ثم يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ولنتذكر شعراء الشواهد في أمهات الكتب وكيف خلدتهم الدراسات والبحوث الأكاديمية.

(عبد الله جمعة)
الإسكندرية في (الأحد) الأول من يونية 2025 الثالثة إلا ربع فجرًا