قبلة الحياة…قصة قصيرة بقلم نجوى عبد الجواد


اللهم إني لك صمت وعلي رزقك أفطرت.
بدأنا بالماء والتمر، وبدأ كلٌ طعامه حسب رغبته. زوجتي ماهرة في المطبخ وطعامها شهي بشهادة ست الكل أمي. هذا يومي الأول في الإفطار مع أسرتي، طبيعة عملي تقتضي غيابي لأيام، انهمكنا في الأكل، لم ألتفت إلى توقف أمى إلا على صوت ابنتي :كلي يا تيتة، كل يوم كده!. نظرت إليها :ليه مش بتاكلي يا أمي؟ الأكل مش عاجبك ولا إيه؟.
الأكل زي الفل، كلوا أنتو بالهنا والشفا،أنا شبعت.
هي كده حماتي من قبل رمضان، فاقدة الشهية. تعلق زوجتي.
حاجة تعباكي يا أمي؟
بلاش تكبِّروا الموضوع وكمِّلوا أكلكم، احنا كل مانكبر أكلتنا تقل. بالهنا والشفا ليكم.
قامت وغادرت المائدة وطعامها كأنه لم يمس.
عدنا من الصلاة، أنهت صلاتها وتسابيحها، جلست معنا جلسة قصيرة وطلبت الذهاب للنوم. امتدت سهرتنا ساعتين، قامت للوضوء وبدأت صلاتها، استيقظت لعملي مبكرا وجدتها مازالت تصلي، قبّلت يدها وغادرت. أشعر أن أمي بها شيء، تنزوي في حجرتها كثيرا، يومها يكاد يكون عبادة فقط، لا أراها تستخدم الهاتف إلا نادرا، على غير العادة، أيدت زوجتي ملاحظتي، وأكدت على أن أمي أقلعت عن إبداء رأيها في أي من أمور حياتنا
كما كانت تفعل. قبل الإفطار دخلت حجرة أمي وسألتها :هل أغضبك أحد منا يا أمي؟، هل أختي مقصِّرة في السؤال عنك؟، هل فعلت شيئا أغصبك أو فاطمة زوجتي أو أحد الأبناء؟. جميع إجاباتها بالنفي. ثم أضافت :كل ده علشان متفرغة للعبادة في رمضان.! فاطمة بتقول إن ده حالك من قبل رمضان. رددت عليها.
خلاص قربنا نقابل وجه كريم نقدم لنفسنا حاجة نلاقيها.
طول عمرك محافظة على عباداتك ولكنك كنتِ قريبة من الكل.قلت لها.
مين الكل؟سألت
إحنا، قرايبنا، صحباتك.، فاكرة لمتنا في رمضان، فاكرة العزومات اللي كنتِ بتعمليها، فاكرة أكلك الجميل وسفرتك اللي لايعلا عليها.
توقفت عن التسبيح والتفت إلىّ وقالت :كل وقت وله آدان.، كنا وكنا، وكانوا حوالينا، والآن أمك بقت وحيدة!، الكبار ماتوا والصغار بعدوا.
سنة الحياة يا أمي.
آخر صحباتي، طنط شهيرة مشيت، راحت لربها، ومن قبلها مني، ومن قبلها مفيدة.
طنط شهيرة ماتت! محدش قال لي يا أمي!
أنا قلت كده ، علشان معزتنيش فيها. كانت آخر الناس الحلوة، سابوني ومشيوا وأنا منتظرة دوري! أمسكت يدها أقبلها :العمر الطويل لكِ يا أمي، ولادك وأحفادك حبايبك حواليكي.
ربنا يبارك لي فيكم يا حبيبي، كل واحد مشغول بحياته وأنا خلاص ضيفة على الدنيا.
أنتِ الوتد بتاعنا يا ست الكل،أنتِ الخير والبركة.
كنت الوتد وسلّمت الراية، وده حال الدنيا.
بلاش الكلام ده، كنتِ وهتفضلي لآخر العمر.
العمر جري يا حبيبي وخد مني الصحبة الحلوة، سيبني يا حسين أكلم ربي.
كل يدافع عن نفسه، الأخت، الزوجة، الأولاد، لا أحد مقصر، إنها مشاغل الدنيا التى تجعلها وحيدة فترة طويلة من اليوم. انشغل ذهن حسين، إلى أن دخل حجرتها يوم النصف من رمضان قبل أن يخرج للعمل، صباح الفل يا حبيبتي، إمبارح رجعت لقيتك نايمة ودخلت نمت ونسيت أقول لك.
خير يا حبيبي.
عندنا عزومة كبيرة النهاردة ومحتاجين إشرافك.
البركة في مراتك.
لا، دي عزومة كبيرة على فاطمة.
أختك هنا وتساعدها، وأنت عارف أختك تربيتي وشاطرة في المطبخ.
برضو العزومة كبيرة على هدي.
ليه عازم مين؟!
ولاد عمي كلهم، وولاد طنط شهيرة وطنط مني، وابن طنط إحسان،وكلهم اشترطوا علشان ييجوا، ياكلوا من إيدك أنتِ.
عزمت كل دول علشاني؟!
كلهم حبايبنا ومحتاجين نتلم مع بعض.
اقتربت مني، أمسكت بيدي وقبلتها، أبكاني تصرفها، سحبت يدي وغمرت رأسها ويديها بقبلاتي، مسحت دمعاتي وقلت :ياللا يا ست الكل جهزي حالك وشوفي طلباتك، وبلاش تتعبي نفسك جامد، عندك صبيان كتير يا أسطي، مني وهدى والعيال. ملأت الضحكة وجهها. وأنا ألبس حذائي سمعتها تنادي :فاطمة، هدى، يا بنت أنتِ وهي، يا بنات يا كسالي، اصحو، اللي عنده عزومة مينفعش ينام. جاءت هدى تقاوم النوم واستيقظت فاطمة علي مضض، فيه إيه يا ماما، لسه بدري. تقول هدى، وتؤيدها فاطمة.
بدري من عمرك أنتِ وهي، يا للا كل واحدة تتشطف وقدامي على المطبخ نشوف اللي محتاجينه واللي هنبدأ نعمله.
لسه بدري يا ماما.
الست الشاطرة تجهز حالها بدري. هاتي ورقة وقلم واكتبي الطلبات اللي هيجيبها حسين.
أخذت أمي تملي على زوجتي :عاوزين ديك رومي وبطتين ولحمة مفرومة وكرنبة كبيرة و…. تكمل ذكر الطلبات وهي في المطبخ، تركت العصا جانبا ودخلت لتبل قمر الدين والخشاف وتجهز صينية الكنافة بالمكسرات. كانت شهيرة بتحبها قوي أكيد ولادها هم كمان بيحبوها.
شعرت براحة كبيرة وأنا أمسك بورقة الطلبات وأمي بكامل نشاطها في المطبخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى