قانصوه الغورى والفرص الضائعة د.أحمد دبيان
قانصوه الغورى والفرص الضائعة د.أحمد دبيان
حديثنا اليوم عن الأشرف أبو النصر قانصوه ومنبته من
بيبردى الغوري الجركسي الأصل، وكان آخر سلاطين المماليك فى مصر المستقلة.
امتلكه الأشرف قايتباى وجعله من جملة مماليكه ثم أصبح في حرسه الخاص وارتقى فى عدة مناصب . كان الغوري مغرما بالعمارة فازدهرت في عصره، واقتدى به أمراء دولته في إنشاء العمائر، وقد خلف ثروة فنية جلها خيرية بمصر والشام
بعد خلع العادل طومان باى ، اتفق زعماء المماليك على سلطنة الغوري بدلا منه، وقد كان الغوري حينها من أهم المماليك المقدمين.
لما أطيح بالعادل، كان الغوري من ضمن الأمراء المقدمين الذي ركبوا واجتمعوا سوياً لاختيار السلطان الجديد.
ولم يكن اختيارهم له إلا لكبر سنه (ستون عاما حينها) وفى اعتقادهم بأنه ليس لديه أى طموح سياسي، مما يجعل مسألة خلعه لصالح أحدهم يسيرة، فحملوه وأجلسوه رغْماً عنه على العرش وهو يبكي ولا يريد المُلك واشترط عليهم ألا يقتلوه وأن يبقوه حياً إذا أرادوا خلعه فوافقوا على ذلك وبايعوه جميعاً.
خالف الغوري سريعاً توقعات خصومه من الأمراء إذ نجح في إبعاد كثيرين منهم وفرض ضرائب باهظة على آخرين واستأثر بالملك، وأظهر حنكة في إدارة شئون الدولة التي انخفضت إيراداتها بشدة بعد اكتشاف البرتغاليين لرأس الرجاء الصالح، إلا أن الإجراءات التي قام بها جلبت غضب الناس والمماليك عليه حيث فرض ضرائب باهظة وخفض الأجور مما أدى لحالة تذمر بين المماليك ولم يمنعهم من عزله إلا خوفهم من انعدام أجورهم بعد ذلك إذا ما تم تبديله بأي سلطان آخر.
كان البرتغاليون في ذلك الوقت قد اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح وسيطروا عليه وكانوا يتطلعون إلى البحر الأحمر من أجل تحقيق حلم السيطرة على كل طرق التجارة فاستولوا على الحبشة ثم هاجمت سفنهم سواحل مصر والحجاز في عهد السلطان الغوري وحاولوا كسب تعاطف باقي أوروبا معهم بإكساب حملتهم على دولة المماليك بعداً صليبياً وأعلنوا أن هدفهم الرئيسي هو الأراضي المقدسة في مكة و المدينة ، أمر السلطان ببناء الشون وأرسل الحاميات البرية إلى السواحل لمنع تقدم البرتغاليين على الأرض، ثم بعد اكتمال جاهزية السفن بدأت معارك بحرية عنيفة وصفها ابن زنبل الرمّال في تأريخه نجحت فيها البحرية المملوكية في طرد السفن البرتغالية من البحر الأحمر والاحتفاظ به كبحيرة مملوكية مغلقة، ثم تقدمت سفن المماليك في المحيط الهندي وهاجمت القلاع البرتغالية على سواحل اليمن وعُمان وإيران وشرق افريقيا ثم طورت هجومها باتجاه المستعمرات البرتغالية في الهند لمساندة حاكم كوجرات الهندية الموالية للمماليك وهزموا البرتغاليين بالفعل عام ١٥٠٨ م في معركة شاول إلا أن البرتغاليين تمكنوا من إعادة تجميع أسطولهم وهاجموا أسطول المماليك في معركة ديو عام ١٥٠٩ م فهزموهم هزيمة قاسية فانسحب المماليك واكتفوا بالسيطرة على البحر الأحمر.
كان الشاه إسماعيل الصفوى، يرسل رسائل إلى قانصوه الغورى ليحذره من خطورة التحالف مع سليم الأول على ملكه وبين له أن عدم تحالف مصر والصفويين سيمكن السلطان سليم من الاستفراد بالواحد تلو الآخر والقضاء عليه خصوصاً مع توقيعه للهدنة مع الأوروبيين، فى الوقت ذاته كان الخطاب الطائفى مشتعلا حيث أن السلطان سليم الأول ظل يحث قنصوة الغورى على أهمية التحالف ضد أعداء الدين من الشيعة، ويحذره من طموح الصفويين نحو حلب والشام، فى هذا الوقت ظل الغورى يحاول إمساك العصا من المنتصف.
راسل سليم الأول علاء الدولة أمير سلالة ذا القدر التركمانية المتحالف مع مصر المملوكية ليطالبه بمساعدته فى حرب الصفويين فاعتذر منه علاء الدولة متعللاً بكبر سنه ووقوعه تحت حماية المماليك.
من جهته حاول قنصوة الغورى تهدئة الوضع بينه وبين سليم الأول وخصوصًا بعد انتصار الأخير فى معركة جالديران
والتى هزم فيها الصفويين هزيمة شنيعة عام ١٥١٤ م ، و الذي قام بعد المعركة بالهجوم على إمارة ذو القدر التابعة للمماليك وإبادتها، مما أدى لزوال كافة الدول العازلة للمماليك عن العثمانيين.
عرض قانصوه الغورى الذى آثر الحياد والترقب على سليم الأول التوسط فى الصلح بينه وبين الشاه إسماعيل، ولكن سليم الأول أهان الرسل وعاملهم معاملة سيئة، ثم جمع وزراءه وقادة جيشه وذكرهم بفعلة علاء الدين الخاضع للمماليك ، ورفض المماليك التعاون معهم فى حرب الصفويين، ولهذا اتخذ قرار بإعلان الحرب على المماليك على أن يرسل رسالة إلى السلطان قنصوة الغورى يعرض عليه الدخول فى طوع السلطان سليم، وكان الغرض من الرسالة جر قنصوة إلى الحرب .
مع تطور الأحداث لم يجد السلطان الغوري بدا من ملاقاة العثمانيين لصد خطرهم على الدولة المملوكية والتي كانت مركزا للخلافة الإسلامية العباسية، ومن ثم تقابلت الجيوش المصرية بقيادة السلطان قانصوه الغوري مع الجيوش العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول وذلك في منطقة مرج دابق بالشام في أغسطس 1516 ميلادية ونتيجة لخيانة بعض القادة للغوري (خاير بك والى حلب ، القاضي يونس – جان برد الغزالي) هُزم الجيش المملوكي بقيادة الغوري ولقى الغوري حتفه حينذاك، واختُلف في أمر وفاته، فقيل إنه أغمي عليه، أو إنه أصيب بالفالج، فسقط عن فرسه، ومات، ولايعرف بعد ذلك ما الذى حل بجثمانه.
حاول الأشرف طومان باى الدفاع عن مصر ولكن مع سقوط العمق الاستراتيجى لمصر ومركز دفاعها المتقدم كانت الهزيمة فى الريدانية ، الواقعة على الطريق بين بركة الحاج والقاهرة , وحالياً تقع عند العباسية.
سقطت مصر بالخيانة ؛ فقد خان خاير بك أستاذه قانصوه حين اشتراه سليم الأول بالمال واستطاع تأمين خيانة جان بردى الغزالى الذى كان على خلاف مع الأشرف طومان باى ففضح خطته للدفاع عن مصر.
بسقوط مصر تحت إحتلال بنى عثمان تم تجريف مقدراتها واستنزاف ثرواتها لتلبث خمسة قرون تحت حكمهم الاستعمارى البغيض.