قاب قوسين… قصة بقلم زكرياء نورالدين الجزائر

استلمت الحبر ودواته، والريشة التي لطالما كانت تنساب بين كتفيك عندما تحسين ببعض الهجران مني، وكتبت على بعض الأوراق كل الرسائل والكلمات التي كنت أظنني ألتمس بها قربك.
هنا في “سانتا ماريا”، لا تزال النساء أشبه بالحوريات اللائي يبحثن عن اللؤلؤ بين الأحواض والخلجان المرجانية، تلك الأوجه و البشرات الزهرية لا ترمز للخطيئة كما اعتقد “فرويد”، حتى “شوبنهار” لطالما نهرنيعن ضمك برسائلي الخطية، التي كنت أرمي بها كل ثقلي إليك، في “عنابة” لا مكان لليأس مادامت “سردينيا” أقرب لنا من الموت نفسه، قد تكون آخر الرسائل التي سأكتبها لك لعلي بها ألامس بعض نداك، سأبحر غدا مع رفقتي من أولئك الذين لم و لن تنفعهم دراستهم الجامعية لا في حاضرهم و لا في مستقبلهم.
كانت رياح ديسمبر يومها أشبه بالشوك الذي يلسع قدم غر، ليست الشوارب و السوالف التي تميزني عن البعض سوى أصالة تنحدر بي من القرية التي تتوسط جبال “الأوراس”، لست سوى عابر قارب يسعى للم بعض العمال لغزو جباه المتوسط للرحيل، أو لأحظى بلمجة باردة على ضفاف نهر “الفولغا” حيث الماء الملطخ بالأوحال بلونه البني الأشبه باصفرار نهر “الغانج” أو زرقة نهر النيل المنطلق من أدنى الجنان، يغرقني “الفولغا” في حيزه التنفيذي، حيث يطبع على كتفي أوشام التبعية لمستقبل لا ندركه مادام كذلك، ينتفض بجداوله ووديانه وجوابيه، مشتت الأوردة والشرايين، يحاول جاهدا أن يجمع شتاته وقرابينه ليستحضر شتاءًا جديدا، غير أن “سانتا ماريا” لا ترغب في أن أرحل عنها، أراها و هي بجناحي ملاك، ترفرف لي من قمة الشموخ تلك بصدرية سوداء بارزة وتاج زمردي فاقع، أستنجد من جديد بإحدى سجائري المعطرة بعطر الخديعة، التي لامست قلبي ساعة اتصلت بك و حددت موعد لقياك أسفل ظلها، حتى أن الخاتم الجاثي على ركبتيه في جيبي، يحاول التملص هو كذلك من حضورك اليومي للأسواق، على الأرصفة ومداخل المحلات والمثلجات، كونك متوسطية المناخ تلعقين الشوكولاطة و الفانيليا المجمدة كنهر “سيبوس”، في محاولته احتضان المتوسط هربا من سخونه المياه المتدفقة من منابعه إلى الأطلنطي، عبر “جبل طارق”، حيث الخطى الأولى لابن زياد في جرجرة “لشبونة” و”غرناطة” إلى مرافئ الغياب.
ساعتها وقفت منتظرة اطلالتي التي لم تناليها يومها، في حين كان الموت أسرع من حضوري وصوت المكابح يطرحني أرضا، ليعود قلبي مضغة كما كان أول مرة، ساكنا و أنا أنظر إلى تلك الساعة المتوقفة منذ فجر التاريخ فوق دار البلدية، غير أنها تشير إلى تمام الثانية عشر، كما هو مدون في شهادة ميلادي، تختلف الأمكنة غير أن الزمن واحد، ساعتها لم أسأل عنك بل سألت نفسي:
_ لم الثانية عشر دائمة الحضور؟!
حتى أن الشرطي المعتمر للبذلة البيضاء وسم الخاتم بالرقم اثنا عشر، ملتقطا له الصورة رقم إثنا عشر، كان وميض الكاميرا يشع كلما ضغط المسعف كلتا يديه على صدري، محاولا انعاش قلبي الخائن لمواعيده، غير أن الموت الذي فررت منه أزل الحياة سحلني إلى غرفة العمليات، حيث المشارط و الضمادات الملطخة بدم الغياب تحاول جاهدة قراءة شيفرة تكويني مستصرخة نجاتي.
في تلك الغرفة الزرقاء، لا وجود لصورة “مارلين مونرو” أو دندنة قيثارة “إيدير”، فقط صوت داعمة القلب تنقل صوت نبضي المتهالك، أحس بتلك الأنامل وهي تدس الخاتم بإصبعي، أعرفها جيدا، لطالما سحبتني من بين أذرغ الفولغا و الغانج و النيل و سيبوس، لتهرع بي مسرعة أسفل جذع سانتا ماريا، مرددة طقوس الموت و الحياة، أدرك جيدا أنني لن أطيب فهل أسأل:
_ هل أبدو لكِ سعيدا.

اقرأ باقي العدد ١٥

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى