رواية: (فاتن) بقلم حسين الجندي – الجزء 2


رواية: (فاتن) بقلم حسين الجندي – الجزء 2

دخلت حجرتها التي أجرتها في لوكاندة (الطاهرة) وارتمت على سريرها، احتضنت عروستها الكبيرة التي تماثلها في الطول،كان قرار شراء مثل هذه العروسة سابقا يحتاج منها إلى مداولات وصراعات داخلها لا يمكن أن تصل حتى لمجرد التفوُّه بالرغبة فيها أمام أهلها؛ فهي تحتاج إلى ميزانية ضخمة للغاية بالنسبة إلى فقرها المدقع..
هي لم تكن في الحقيقة من هواة اقتناء العرائس كمثيلاتها،ولكنها إحدى عُقَد النقص وما أكثرها عندها!
تناولت عشاءها الفاخر الذي أحضرته من الكبابجي الشهير وأكلت بِنَهَم،لقد اشترت كمية ضخمة من الكباب والكفتة تكفي لأسرة كبيرة، لكنها أكلتها وحدها، للدرجة التي معها كانت تذهب إلى الحمام لتفرغ معدتها قسرا لتستطيع تناول المزيد والمزيد..
فجأة سمعت صوت أقدام تقترب من الباب ظنت أنها لصاحب اللوكاندة لعله قد جاء ليأخذ الإيجار الشهري لكنها تذكرت أنها دفعته منذ يومين..
فلمن إذن تلك الأقدام؟!
شعرت بالخطر،تحركت ناحية الباب نادت بصوت خفيض:
مَنْ بالباب؟
لم يأتِها رد..
كررت النداء بصوت مرتجف..
جاءها الرد هذه المرة على هيئة محاولة لاقتحام الحجرة، حاولت الاستغاثة، انفتح الباب، فوجدت أمامها عم عثمان صاحب اللوكاندة ومعه رجل مفتول العضلات قام الأخير بشل حركتها وتكميم فمها وتقييدها إلى كرسي في ركن الحجرة، عبثا حاولت تحرير نفسها، وجدتهما يطلبان منها المكان الذي تخفي فيه النقود، رفضت في بادئ الأمر لكنها وبعد الضغط عليها وتهديدها بالقتل رضخت وطلبت منهما تحرير فمها لتتكلم، حذَّراها من التهور والصراخ هزت رأسها موافقةً، أزاح عثمان جزءا من اللاصق عن فمها ولما اطمئن لهدوئها أزاح الباقي منه، انتظرا بترقب وحذر ردة فعلها، ولكنها بعد تردد قالت بتحدٍّ مصطنع:
هذا المال هو حياتي وبدونه الموت أكثر راحةً لي، ما عانيته في حياتي من قهر وفقر
ومهانة تهون معه أي مصيبة، حتى ولو كانت… الموت..
وليكن في علمكما لو قتلتماني لن تستفيدا شيئا؛فمن غيري سيرشدكما عن مكان المال؛ فأنا لا أخفيه هنا بالطبع..
شعرا بمنطقية كلامها وقبل أن يعقبا عليه بادرتهما بقولها:
عندي صفقة يمكنني عقدها معك يا عم عثمان..
توقفت ونظرت مباشرة إلى عينيه الغائرتين..
انتظر أن تكمل ولكنها تفحَّصت بعينيها الرجل مفتول العضلات فأشار إليها عثمان مشجعا أن تكمل،فأردفت:
أنت يا حاج عثمان رجل بليد بلا طموح، وستظل هكذا إلى آخر يوم في حياتك..
وقبل أن يقاطعها مغضبا بادرته:
هذه اللوكاندة ستظل هكذا لا يرتادها سوى متوسطي الحال، ما رأيك في تغيير نشاطها وتوسيع أعمالها، وقبل أن يجيبها أكملت :
لا عليك دع هذا الأمر لي وسترى..
و الآن فك قيدي يا رجل..
وجهت عبارتها الأخيرة إلى الرجل المفتول العضلات وغمزت إليه بطرف عينها في غنج واضح فسال لعابه، فحرَّرها على الفور..
***************
جلست معهما ليتفقوا على كل شيء،وبعد أقل من نصف الساعة انصرف عثمان وبقي الرجل مفتول العضلات وحده معها وأغلق الباب دونهما، لتبدأ فاتن في تنفيذ أول فصول الصفقة،صفقة بيع النفس،والغوص في اللحم الرخيص..
بعد مرور عام تحولت لوكاندة (الطاهرة) إلى فندق (الليل وآخره) ..
خادنت فاتن كل من يدفع أكثر..
وذات ليلة سقطت فاتن وهي ترقص من أجل عيون سيدها..
صارت حياتها سلسلة لا تنتهي من السقوط حتى وهي واقفة..
ومات المتعوس (عثمان) بعد أن ختم حياته بالخطيئة وصار فندق (الليل وآخره) مقصد كل داعر فاجر..
***************
ذات يوم وهي تتصفح الفيس بوك وجدت حسابا لأحد أقربائها لم تكن على دراية مطلقا بأنه على علم بجرائمها، تعاملت معه بما آلت إليه حاليا كسيدة وجيهة ذات وجود ونشاط اجتماعي مرموق في أرقى المنتديات والنوادي، وكان يتعامل معها بما هي عليه الآن، لقد حذَّروه من ماضيها الأثيم وحاضرها الذي بُنِيَ على الدنس،لكنه سمع لهم و كل ما فعله هو التجاهل،وبرغم الخلفية القذرة التي علمها عنها لكنه أسقطها من باله ولو إلى حين..
عجيب حقا شأن تلك المرأة، فعلى مدار عام كامل تعرَّف عليها فقط عبر وسائل التواصل الاجتماعي لم يرَ منها إلا كل خير ولكنه في المقابل لا يسمع عنها إلا كل شر..
يراها تتكلم معه في أمور الدين كقارئة مُطَّلِعة، وتُقَدِّم إليه النصح كأعظم واعظ، يغلق معها الحديث ويظل عقله بعدها يدور..
صراع رهيب بين ما يُعايِنُه وبين ما يُحْكَى له..
***************
استيقظ يوما على رنين هاتفها في وقت مبكر على غير العادة وجدها تستحثُّه على الحضور إليها وصوتها يمتلئ رغبة فيه،
وتخرج كلماتها مبعثرة يكاد يتبيَّن منها ما يفيد..
لم يكن يعرف لها مكانا محددا، وفي الأصل لم يهمه ذلك فقط كان يكتفي بالتواصل معها عبر الفضاء الأزرق، ربما مؤقتا إلى وقت، و لا يدري لماذا لا يريد أكثر من ذلك؟
هل يخشى الاقتراب منها أكثر؟
هل يُصَدِّق في قرارة ذاته ما يُقال عنها؟ هل استفتى قلبه فأفتاه؟
لا يدري…
داخله صراع رهيب، هذه المرأة بها شيء جاذب لا يدري سببه..
ربما جمالها أو شخصيتها أو وضعها الحالي..
لا لا لا ليس هذا على الإطلاق؛ فهو ليس الشخص الذي تهمه هذه الأشياء مطلقا..
لكن الشيء الوحيد الذي يوقن به أنه لا يستطيع التخلي عن معرفتها لقد أصبحت جزءا يضفي السعادة والشغف على حياته والتي صارت رتيبة مملة..
هي تصغره بعام واحد لكنه يشعر بأنها تمتلك خبرة تفوق عمرها بضعفين..
أسئلة ألحَّت عليه كثيرا:
لما لا يفتح لها قلبه؟
لما لا يعطيها الفرصة؟
لما لا يكتشف بنفسه حقيقتها؟
هو في قراره يتمنى ألا تكون مثل ما يحكون..
لأول مرة يحتاج إليه إنسان بهذه الشدة..
لقد ظل قلبه مغلقا طوال حياته،لم يسمح لإحداهن بمجرد الاقتراب منه، لم يدرك حتى معنى الحب..
أيكون هذا هو الحب؟
زوجته مثالية للغاية لكنه لم يعش معها قصة حب كالتي يسمع عنها في الروايات والأفلام والقصائد والأساطير ..
إذن فلْـيُجَرِّب..
لقد أصمَّ أذنيه عن ضجيج المعيبين، بل صاروا في نظره مُغْرِضين، لقد أقنع نفسه بذلك،نعم هم مغرضون،بل حاقدون،لقد صارت فاتن امرأة ناجحة غنية، في يديها تسيير أمورها بسلاسة واقتدار، لقد استقرأ حال معظمهم فوجدهم يعانون الحاجة والعوز والمستور منهم على وشك الفضيحة..
صار حديثه لنفسه يُكْبِرُها في عينيه،لقد استحالت إلى حلم يهفو لإنزاله على أرض الواقع..
وأخيرا، اتخذ قراره..
أغلقت الهاتف معه على وعد منه بالذهاب إليها، في المكان الذي سترسله إليه عبر (جي بي إس)..
وعدها دون أن يفكر لحظة، ربما لأنه كان يريد ذلك،بل ربما كان يتمناه.