رواية (فاتن )- الجزء (1) بقلم حسين الجندي

نزلت من سيارتها الفارهة ترتدي ثوبا فاخرا، كمية المساحيق التي تضعها تكفي محل تجميل لمدة شهر، لم تكن تحتاج لها فهي بطبيعتها جميلة للغاية، طلبت من سائقها الانصراف والعودة بالسيارة في الغد، استقبلتها صديقتها في منزلها المتواضع بترحاب، قدمت لها واجب الضيافة السريع، بعض الكعك المتبقي من عيد الفطر وكوبا من الشاي، ظلت فاتن طوال الوقت تتأفف وتمسك بأنفها بطرف سبابتها وإبهامها..
شعرت صديقتها بحرج بالغ لم تكن تتوقع تلك الزيارة المفاجئة، أخذت تذكرها بذكريات الطفولة البريئة وشقاوة الضفائر، لم تجد منها أي تجاوب يذكر،فقط تبدل رجلا برجل في تململ واضح وتتعمد أن تجعل المرفوعة تستقر في الأخير في مواجهتها، تظاهرت صديقتها باللامبالاة برغم أنها فشلت في إخفاء حنقها المكتوم؛حاجتها الشديدة ألجمت فمها وكبلت كرامتها، لقد أرسلت إلى فاتن رسالة وقَّعتها بدموع القهر وأمهرتها بمرارة العوز، وعدتها فاتن بالمساعدة، انتظرتها و لم تفكر ولو لمرة أن تسأل نفسها :
لماذا استجابت لها بهذه السرعة؟
لقد عهدتها لا تهتم إلا بذاتها،لديها استعداد أن تدوس بقدميها على كل من يقف في طريقها..
وقفت فاتن فجأة ووضعت في يدها ظرفا مغلقا وهي تقول عبارتها بتعالٍ شديد :
ده مبلغ أعتقد إنه هيفك أزمتك، لو عاوزة حاجة ثانية اتصلي عليَّا.. يالَّا سلام..
قالتها ولم تنتظر منها ردا وغادرت مسرعة وهي تضع يدها على فمها وأنفها..

لقد صنعت فاتن ذلك مع صديقات طفولتها التي تتبعت حالتهن وعرفت بفاقتهن، لقد صارت فاتن سيدة مجتمع من الطراز الأول؛جمالها الصارخ جعلها مطمعا لكثير من الرجال، طموحها الجارف لم يجعلها تقنع بأي رجل؛ لقد أرادت رجلا ينقلها إلى أعلى سلم المجد..
لم تنتظر كثيرا..
تحقق مرادها، لكنه عاملها كجارية بعد أن ملَّ منها..
لم تشأ أن تخرج من قصره المشيد خالية الوفاض، سرقته وهربت، ظل يبحث عنها، لكنها كنَّت عند غيره..
صارت حياتها سلسلة من الكر والفر..
كرهت النظر في المرآة؛لم تعد ترى فيها جمالها كانت ترى شيطانة، وضعت جل غضبها عليها؛كثيرا ما حطمتها، ربما نجحت في ذلك، لكنها من المؤكد فشلت في أن ترى نفسها ذلك الملاك البريء الذي طالما تغنَّى به جميع من حولها وهي في سن السابعة..
**
لقد وجدت وقتها جميع الأبواب مفتَّحةً أمامها، روحها الجميلة وطلتها البهية ولسانها الحلو كلها أشياء أجبرت الغريب قبل القريب على احتوائها وجبر خاطرها..
لقد كانت في أشد الحاجة إلى ذلك، فلقد تفتحت عيناها على والد بخيل، القرش يقطعه من جسده قبل أن يخرجه من جيبه، أمها لم تتذكر يوما مذ وعت عليها أن رأتها ليلةً تبيت إلا والدمعة تغلف عينيها والقهر يتغلغل في كيانها،مدت يدها إلى خلق الله، تفعل ذلك كل يوم وزوجها يكنز المال ولا يبالي بهم..
وعندما تضجر وتعلن العصيان وتبرز منها أنياب التمرد المتهالكة يترك علامات على جسدها من أثر كرباجه اللعين..
كبرت فاتن على هذا الذل،لكنها لم تكن بخنوع أمها وضعفها أمام هذا الجبروت المقيت لذا فبمجرد أن صارت أنثى تنتظر الإعلان سرقته فاتن..
نعم سرقت أباها وهي تضحك بملء فمها، قهرته على أعز ما يملك، وهي في قمه النشوة..
تركت حضن أمها وهي تعدها بأن تنتقم لها منه، دبرت بليل للسرقة الكبرى..
طلبت من أمها الهروب معها من جحيمه فأبت، ألحت عليها لكنها أصرت،رأت تمسكها به عجيبا..
لكن فاتن حزمت أمرها..
كل ما جمعه طوال حياته صار بحوزتها..
في ستار الليل هربت، استيقظ الأب صباحا ليطمئن على كنزه كالعادة فلم يجده، لحظات دارت فيها الدنيا به، وقع وقعته الأخيرة..
عادت فاتن لتوها لتأخذ عزاءه لم يدر أحد بما حدث سوى أمها والتي ظنت أنها ستعطيها المال لتصرف به على إخوتها،لكنها رفضت ونظرت إليها بعينين يملأهما الطمع:
هذا مالي وحدي، قد أعطيكم مبلغا كل شهر، أما أنا فسأرحل؛ لقد سئمت حياتكم حياة الذل والفقر والخنوع..
عبثا حاولت أمها معها لقد ألحت عليها، رجتها، توسلت إليها قبَّلت يدها..
أفلتت بقسوة تلك اليد التي حملت وربت وكبرت ورعت وضحت؛ لقد سعرها المال..
أجهشت الأم بالبكاء..
تركتها تبكي ورحلت، ولم تعد مرة أخرى..
علمت بعد شهر بموت أمها، فرنت منها إيماءة نحو المجهول ونطقت بلا مبالاة:
الله يرحمها، ارتاحت..
أنفقت كثيرا على كل ما حُرِمَتْ منه، لم تترك نوعا من الطعام كانت لا تحلم بمجرد النظر إليه إلا وأكلته، لبست أغلى الملابس، تنزهت وركبت كل الألعاب التي تمنت فقط لمسها، فعلت كل هذا ولا تدري أن هناك عينا تراقبها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى