خطأ صغير …. قصة قصيرة بقلم ربيع دهام

أرجوك لا تلمني؟
ولو أُذِن لأحدٍ أن يلومني فإنّي، أنا ذاك المخلوق الأضعف، لا أجد مناصاً من السؤال:
” ألم يرتاح الله في اليوم السابع؟”.
كنت منهك القوى، خائر العزيمة، عليل النفس. ما إن تراءى لي سريرٌ حتى رميتُ جثّتي المتهالكة عليه. وبعد ذلك، وفي غضون ثانيتين لا أكثر، فقدتُ وعيي تماماً.
وإن سألتَني: “كيف عرفت أنك فقدتَ الوعي؟”، لأجبتك:
“عرفت ذلك من عيني اليسرى”.
عيني التي ما إن فتحتها حتى اصطدم ناظرها بستارةٍ من غباش.
لا، وليس أيّ غباشٍ، بل طيف أجسادٍ بشريّة رأيتها تحيط جسدي المُمدّد وتنتحبُ.
عرفتهم. نعم عرفتهم. وأكاد أحلف أنني أدركت هوّياتهم من ذبذباتهم الصوتيّة.
أكنتُ أنا في واقعٍ أو في حلم؟ وما هو الواقع؟ وما هو الحلم؟
أنا لا أعرف. فإذا كنتَ أنتَ تعرفَ، أرجوك أخبِرني.
كل ما أعرفه هو أنّ ذاك الضباب راح يتلاشى أمامي ما إن فتحتُ عيني اليمنى.
ساعتئذٍ أدركتُ:
لا. لم أكن أبداً في حلم. بل كنتُ في تابوت. نعم، في تابوت!
وأكاد أحلف، بالكفن الذي أحاط بجسدي.
وأكاد أحلف، بباقات الورد التي تكدّست من حولي.
وأكاد أحلف، بالليل الذي أسدل لباسَه على أجساد السيّدات.
وأكاد، أكاد أحلف، بالشيخِ الذي يقف أمامي ويتلو آيات من القرآن الكريم.
وعلى يميني كنتُ أسمع، لا بل وأرى، أقاربَ فيما بينهم يتجادلون.
ولمّا أصختُ جيداً، اجتاح مسمعي فيضانٌ من أحاديث:
“العقار رقم ثلاثة لي”.
وسمعتُ الذي أمامه، والذي كان يشبهه في الشكل، يجيبه:
“بل العقار رقم ثلاثة لي”.
فجأةً تذكّرتُ. عرفتُ. أيقنت. من شكلي الذي يشبه شكليهما. من أذني التي اعتادت صوتيهما. من لهجتهما. من كلماتهما وعباراتهما الشبيهة بلكماتي وعباراتي.
كانا أخي الأكبر والأصغر. وكيف لا يعرف الأخ أخويه؟
أردتُ أن أناديهما شوقاً، لكن خيبتي بحديثهما أسكتتْني.
بعد ذلك، سمعتُ صوتاً بدا وكأنّه صوت عمّي.
سمعتُهُ يقول لامرأةٍ، عرفتُ فوراً أنها زوجتي:
” لماذا شاورما لحمة؟ شاورما الدجاج يفضّلها الناس أكثر”.
ولا أخفي عليك. قد أحزنني كلامه. أحزنني جداً. لكنه أبداً لم يفاجئني.
فيا لعمّي اللئيم. لم أكن لأثق به يوماً.
ولا أخفي عليك أيضاً أنني، في تلك اللحظة، ظننتُ زوجتي ستجيبه:
“أتتلكّم في الطعام وحبيب قلبي قد مات؟”.
نعم. هذا ما ظننته. لكن في حقيقة الأمر، سمعتها تجيبه:
” أتعرف؟ أنا أشتهي الأرضي شوكي”.
“يا أرضي شوكي انشقّي وابلعيني”، قلتُ في نفسي.
وابتلعتُ ريقي. ومضغتُ غضبي. وعضضتُ خيبتي.
ورحتُ، وسط هذا الحشد المنشغل بكل شيءٍ إلا بي، أسائل نفسي:
“ألم يلحظ أحدٌ أنني ما زلت حيّاً؟!”
” ألم ينتبهوا بعد لعينّي المشرّعتين؟ لفخذي المتحرك؟ لققص صدري الذي، مثل موج البحر، يعلو مع الوقت وينخفض؟”.
لا. لم يلاحظوا إطلاقاً.
وكيف سيلاحظون والجمع كان منشغلاً بأفخاذ الدجاج المشويّة، وأقفاص الصدور المقليّة؟
أحسستُ…أحسستُ بعطفٍ شديدٍ نحو آدم وحوّاء.
لماذا آدم وحوّاء؟
مسكين هو آدم. ومكسينة هي حوّاء. قد أنزلتهما نقمة المعرفة من الجنّة
إلى الجحيم. وهذا أنا ذا،مثلهما، تدوسني نقمةُ الحقيقة على عنقني، فتطحن عظام رقبتي.
“ميّتٌ أنا، وأخويّ يتحدّثان عن الورثة”.
“ميّتٌ أنا، والسيدة زوجتي تفكّر بالأرضي شوكي”.
و”حيٌّ أنا، في التابوت أُرزَق!”.
ومن خيبتي بمن حولي، قرّرتُ أن أموت حقاً. أن أهتك أنفاسي وأرحل.
أن أنتحر وأموت. وربما هي أول حالةٍ في تاريخ البشريّة:
“رجلٌ انتحر بعد موته!”.
رفعتُ يدي، أغلقتُ باب التابوت عليّ، وانتظرت أن أُوارى الثرى.
وكم طال. كم طال ذاك الانتظار.
أما كيف وصلتُ إلى هذا التابوت، فتلك قصة أخرى.
كنتُ قد أتيت راكضاً إلى المستشفى لأرى جثة صديقي المتوفّي
بعد حادث سيرٍ كبير.
ولمّا كنتُ منهك القوى، ومضطرب الأعصاب، ارتميت على السرير
الذي إلى جانب سريره.
ولمّا أتت سيارة نقل الموتى، سحبتني أنا بدل جثّة صديقي.
بعد ذلك، رأيت نفسي في هذا التابوت. أشهق وأزفر في هذا التابوت.
وفي هذا التابوت، أكتشف الفاجعة.
خطأ…خطأ غير مقصودٍ. صدفةٌ. صدفةٌ صغيرةٌ جداً، تكشف لك زيف
الواقع الذي كنتَ تعيشه.

اقرأ باقي العدد ١٤

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى