“حين تصرخ الحياة في صندوق كرتون” … نص نثري بقلم منى الشوربجي

فوجئت بالطبيعة التي لم أكن أعرفها حقاً. لطالما ظننت أن القسوة حكرٌ على البشر، وكنت أسمع دائما العبارة الشهيرة: “كأننا نعيش حياة الحيوانات”. لكن الأقدار ساقَتني لأتأمل عن قرب، وأصدق وأعي فاكتشفت أن هذا العالم لا يعرف مفاهيم الخير والشر كما نعرفها، بل يسير مدفوعًا بالغريزة، لا بالقلب، ولا بالمشاعر، ولا بأي إحساس. إنه عالم لا يَحكمه الظلم ولا الرحمة، بل فقط قانون البقاء.
إليكم حدث بالفعل معي شخصياً سأرويه لكم …
في مكانٍ لا يُنتظر فيه سوى صوت الجرس وخطى الأطفال، انطلقت صرخة مختلفة. لم تكن صرخة إنسان، بل مواء حاد
ومختنق لقطة وليدة، بالكاد فتحت عينيها على هذا
العالم. كانت ممددة تحت شمسٍ حارقة في فناء مدرسة، تتلوّى بصوتٍ يشبه الاستغاثة، لا من مرض ولا من عيب، بل من وجودٍ هشّ لم يجد بعد مكانًا آمناً يليق بحجمه. كانت بها روح. وكانت تصرخ.
بتلقائية منى وكأي إنسانة عادية حركتها فطرة الأمومة، طلبت من إحدى العاملات نقلها بعيدًا عن الشمس. فوضعت القطة في كرتونة صغيرة وتركتها داخل طرقة في أحد أدوار المدرسة، حيث الظل والهدوء. بدا المكان مأوى مؤقتًا، وكأن لمسة الحنان البسيطة تلك ستكفي لتأجيل الأسوأ، ولو قليلًا.
لكن العالم لا يتغير بصدق النوايا. بعد مرور حوالي عشر دقائق .. دخل بعدها قط غريب في حجرتنا حجرة المدرسات مظهره أشعث، عيناه زائغتان، كأنما خرج للتو من فوضى العالم الخارجي. وقف على العتبة، حدّق بنظرة سريعة، ثم خرج. لم يقترب، لم يصدر صوتًا. فقط نظر. وكأن بينه وبين القطة التي لم يكن والدها، صمتًا مفهوماً لا يحتاج إلى تفسير.
بعد لحظات، خرجت صديقة لي لتتفقد الصغيرة. فوجدتها ساكنة تمامًا. لم تعد تصرخ، لم تعد تتلوّى. بل ماتت، مجروحة من رقبتها ، تحمل آثار عنف لم يُسمع له صوت. وقد انتهت حياتها في الصندوق الكرتوني الذي خُيّل لي للحظة أنه ملجأ.
في اليوم التالي، لم تعد جثة القطة موجودة. اختفت…
المشهد، على قصره، يحمل في داخله سؤالًا فلسفيًا ثقيلًا:
ما الذي يجعل من الكائن القوي كائنًا تافهًا؟
في عالم الحيوان، قد يكون لهذا الفعل تفسير غريزي؛ الذكور تقتل أحيانًا صغارًا ليسوا من نسلها لتعود الأنثى إلى دورة التزاوج. وقد ترفض الأم مولودًا ضعيفًا لا فرصة له في الحياة. من منظور الطبيعة، لا ظلم هناك، بل حسابات بقاء. لكن من منظور المراقب — الإنسان الذي رأى وسَمِع وتفاعل — لا يمكن إلا أن يُرى ما جرى كنوع من الوحشية، لا الغريزة.
وهنا يتضح الفارق. في البشر، “القوي التافه” هو من يملك السلطة دون رحمة، القوة دون حكمة، القدرة على الإيذاء دون هدف سوى الإيذاء ذاته. هو من يرى الضعيف فريسة لا مسؤولية. في الحيوان، ربما هي الطبيعة. في الإنسان، تصبح القسوة اختيارًا.
القطة الصغيرة لم تكن تعي قوانين البقاء، لكنها دفعت ثمن وجودها في عالم لم يكن مستعدًا لها. والقط الذي دخل وخرج بصمت، كأنه نفّذ ما هو مفروض عليه بيولوجيًا، لكنه في أعيننا، كان ممثلًا لتلك القوة التي لا تبرر نفسها، ولا تبالي بما تترك خلفها.
هذا المشهد لا يُنسى لأنه حيواني، بل لأنه إنساني في أثره. يعيد إلى الواجهة السؤال الأهم:
هل ما يُمارس باسم القوة هو حق؟
أم أن كل قوة بلا رحمة هي مجرد صورة أخرى للفراغ؟
بين الصندوق الكرتوني، والقط الأشعث، ومواء لم يُسمع إلا مرة واحدة — تختصر الحياة مشهدًا كاملاً من فلسفة الظلم:
أن يكون لك الصوت، ثم يُطفأ، لا لذنب ارتكبته، بل لأن أحدًا أقوى، وأكثر تفاهة، قرر أن ينهيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى