حكاية_بسمة …قصة قصيرة للكاتبة الأمريكية / سوزان جلسبل ١٨٧٦-١٩٤٨ – ترجمة بتصرف : د. خالد العجماوي

لم ترتد الأسود في ذلك اليوم؛ وإنما ظهرت بفستان أزرق داكن وقبعة بسيطة، تماما كما كان يحب أن يراها. خرجت من الصالة ووقفت على جانب الشارع المقابل تنتظر خروج المتفرجين، وفي يدها كيس الذرة الذي اشترته لتوها. كانت بلدة بعيدة، وقد تكبدت مسافة طويلة كي تصل وتحجز غرفة في فندق، ثم تحجز مكانا أمام شاشة العرض . شعرت بغصة وهي تشاهدهم يتدافعون خارجا بعد نهايته، ووجدت نفسها تتجه نحو عامل الصالة بخطوات مرتجفة، وكيس الذرة يهتز في يدها من أثر الانفعال. سألته بعصبية وقد تمكنت منها رجفتها: “لماذا لم تعرضوا كل الفيلم؟” نظر إليها متعجبا، وعيناه تتفحصها من فوقها وتحتها، ثم قال مستغربا: “حذفنا جزءا بسيطا لم يكن مهما”
لم تعتد الحوار مع الغرباء، إذ كان هو عالمها الذي تعيش من خلاله، وكان نافذتها التي تنظر منها إلى الآخرين. لو كان هنا لأثناها عما تنتوي، ولطلب منها أن تسرع في الرجوع إلى بيتها كي يطمئن.
ارتعشت يداها حتى سقط منها الكيس الذي تحمله، وصوتها يهتز بالبكاء المكتوم: ” كان مهما لي. ليس من حقكم. هذا غش!”
تمكنت الدهشة من عامل الصالة، ووضع يده في جيبه قائلا: ” من الممكن أن تستردي النقود” أجابت باكية:” أريد أن أشاهده”
قال محاولا استرضاءها: ” أستطيع أن أحكيه لك”
صرخت:” أريد أن أراه بعيني!”
حدق العامل في وجهها دون أن ينبس. نظرت إليه في توسل، ثم استدارت مبتعدة ودموعها تنهمر. في الصباح لم تفكر في العودة إلى بلدتها، بل أرسلت برقية إلى صناع الفيلم تسألهم عن مكان العرض التالي. لم تستسغ فكرة الرجوع إلى بلدتها وبيتها، وقد غاب عنه دفؤه وسحر بريقه. كم هي قاسية هذه الحياة دونك يا هوي!
جاءها الرد على البرقية سريعا. المكان بعيد جدا هذه المرة؛ مائة ميل أو يزيد. يبدو أن عليها أن تتوقف عن هذا الهراء. كانت قد وعدت أخاها ألا تطارد الفيلم في كل بلدة وكل صالة عرض، والوقت قد حان كي تفي بوعدها، فهل تراها تستطيع؟ المكان هذه المرة بعيد. والمخاطرة كبيرة. ولكن هل تستطيع التوقف حقا والابتعاد؟ أن تكف عن مطاردة طيفه البسيط هذا، والبقية الباقية منه! كان أملها أن تراه في ذلك اليوم ولو للمرة الأخيرة، فإذا بآمالها وقد تحطمت وتبخرت أحلامها، فهل تخون أملها في رؤيته ولو للمرة الأخيرة؟
حسمت أمرها، وارتدت فستانها الأزرق الذي طالما أحبها فيه، وركبت القطار متجهة نحو العرض الجديد. كانت وكأنها ذاهبة للقياه؛ دقات قلبها المتسارعة من اللهفة، ورعشات جفونها من أثر الحب والاشتياق.
لم تعجبها الصالة حين دخلتها؛ كانت كبيرة بحوائط حمراء، ونور أخضر باهت كئيب، وقد ضجت بالكثير من صخب الناس وضحكاتهم.
ولكن ظل قلبها يدق متسارعا من فرط الحماسة والترقب.
بدأ العرض. كان عليها أن تنتظر حتى يمر نصفه. قصة مبتذلة بلا معنى، وممثلون تافهون وصورة بائسة!
ولكن هوي سوف يحضر. كان هناك صدفة أثناء تصوير الفيلم، مجرد رجل يمر في الشارع. يرى جروا صغيرا بائسا يتألم وهو يحفر في حزام مربوط بقوة حول فكيه، فإذا به يربت عليه، ويفتح الحزام عنه قليلا، ثم يمضي، ونظرات الجرو تشكره للطفه في امتنان. يستدير هوي فيظهر وجهه كله، ويبتسم فتضيء بسمته الشاشة كلها، والصالة كلها، وكل الدنيا! ثم يترك الكادر.
لحظات عابرة تركها صناع الفيلم لرجل يمر مصادفة فتركوها خلفية لأحداث الفيلم التافهة. لا يأبه بها أحد، لكنها عمرها كله..تلك اللحظات التي تراه فيها، فتستعيد روحها أمانيها وهي ترى تلك البسمة التي طالما أنارت لها قلبها دفئا ونورا. هوي ما أجمل اللقاء! وما أقسى الفراق!
سمعت همسات إعجاب صغيرة داخل الصالة، وصوت امرأة تهمس أن هذه اللقطة هي الأجمل، وأن ذلك الرجل إنسان رائع، وأن الفيلم كله بعد ذلك مجرد خردة!
كانت كلما مرت اللقطة تتسمر في كرسيها لحظات كأنها مسحورة. كأنها تخشى الحركة كي تظل في اتحادها مع ذلك العالم الآخر، هناك حيث تلك البسمة وذلك الوجه.
انتهى العرض، وسارت هي في الممر ذاهلة من أثر السحر، فما أفاقها سوى صوت أخيها توم: “لورا!”
سألته متعجبة” كنت تتبعني؟”
” أخبرتني السيدة إدموندز، فقررت المجيء “
السيدة إدموندز! هي أول من أخبرها أن زوجها هوي يظهر في ذلك الفيلم لقطة عابرة، وأنها فرصة لو أحبت أن تراه مجددا بعد أن خطفه الموت منها بيديه القاسيتين. لكم كره أخوها توم ذلك، ولكم اعتبره نوعا من العذاب لروحها. لكنه كان للورا العذاب الجميل، ذلك العذاب الذي أوجد لحياتها طعما ومعنى بعد رحيل حبيبها هوي.
رجعت لورا مع أخيها إلى بلدتهم البعيدة. أخذها توم في منزله، وأخبرها أن الحياة لا تقف وأنها لا بد تستمر حتى وإن فقدنا الأحباء، كما قالت زوجته إن الحياة تستحق أن تعاش بحلوها ومرها، وإن على الإنسان أن يقاوم أحزانه.
يا لها من عبارات مبتذلة! هؤلاء لا يعرفون هوي!
لقد استطاع أن يكسر في لورا عزلتها، وأن يحطم أسوارها، وأن يعرضها إلى العالم، وأن يعرض لها كل العالم. تلك الفتاة المنطوية والخجولة، والتي لا تملك مهارة التواصل مع الآخرين، استطاع هو أن يخترق من حولها حجب الانطواء، فيكشف لها سحر الدنيا وروعتها، بل وأن يظهر للناس جمال ذاتها هي. كان هوي صديقا للدنيا. للخلائق. للجماد والإنسان والحيوان. صدقت المرأة في الصالة حين قالت إنه إنسان رائع لمجرد رؤيته في لقطة عابرة؛ فما بالها هي وقد توحدت معه زوجا و زوجة مدة امتدت لسنوات هي كل حياتها وجميل أيامها!
أ ولا يعرف توم كيف رحل هوي عن هذه الحياة البائسة؟ أو لا يعرف أنه كان يجرب ما صنعه من ظلال لحماية العينين في إحدى مصانع الذخيرة، فإذا بها تنفجر فيه لتجعله أشلاء! ما أقسى الحياة وما أقسى الدنيا؛ حاول الملاك أن يحمي العيون فإذا بها تمزق منه الجسد.
هؤلاء لا يفهمون. يطلبون منها أن تستقبل الحياة بينما الشمس قد خمدت وانطفأت فيها جذوة الحياة.
بيدين مترددتين قررت إجراء الاتصال. مر صوتها عبر الهاتف متسائلا عن المكان الجديد لعرض الفيلم. رد عليها صوت بعد فترة من الصمت. أخبرها أن الفيلم لن يعود متاحا وأنه لم يحقق أي نجاح. كأن الحياة تأبى أن تلتقي لورا بهوي لقاءها الأخير.
“سيعرض في بلدة أنديانا. ولكنه العرض الأخير للفيلم. عليك أن تسرعي!”
لا يزال ثمة أمل. رغم القسوة والظلم والكآبة؛ فإن الحياة لا تزال تحمل بعضا من الرحمة!
كان القطار متأخرا، وصالة العرض تبعد ميلا عن المحطة، والعرض قد بدأ لتوه.
لما وصلت كانت الصالة قد امتلأت. ليس ثمة مكان في الشرفة أو الأماكن العلوية أو السفلية.
“لحظة..ثمة مقعد هنا”
كم أنت رحيم أيها القدر!
جلست في المقعد الشاغر، وصادف أن جلس بجانبها طفلة وأمها. لم تشعر بهما لورا. كانت تستعد للقاء، والنظرة والابتسامة، وعودة الحياة.
المرة الأخيرة!
ستراه فيها يتحرك، يسير في الشارع، يبتسم..
كانت الطفلة تنظر إليها في تعجب. ربما لمحت تلك اللمعة في عينيها، وتلك الرعشة في يديها. ولكن لورا لم تأبه، وانكفأت على نفسها تلملم روحها المضطربة وهي تستعد للقاء.
مرت الدقائق، واقترب الوقت، وأنفاسها تتسارع وهي تنتظر مجيء حبيبها. شعرت بشيء يقع على كتفها فجأة. نظرت فإذا برأس الطفلة منزلقا وقد غلبها النعاس. يا للسماء! تريد أن تكون وحدها مع هوي! لا تريد إزعاجا يشتتها عن لحظة اللقاء.
ظهر الجرو الصغير على الشاشة يحفر متأففا في حزام فكه. ثم ومضت الصورة فجأة، وتوقفت الحركة.
أمسكت برأس الطفلة تستعدل نومتها.
صخب الناس هازلين ومستهزئين: فيلم تافه..خردة..
ظهر شبح هوي ضبابيا وهو يفك حزام الجرو..
ذهلت عيناها، ويدها تضع رأس الطفلة على كتفها في رفق..
ومضت الشاشة بشبحه وهو يربت عليه..وذيل الجرو يلوح في امتنان، بينما الطفلة تغوص في كتفها مستغرقة في نومها العميق.
ثم ومضت الشاشة وتجمدت على ابتسامة هوي.
توقف الزمن، بينما اخترقت نظرته روحها، وابتسامته ذرات كيانها.
كانت بسمته الأخيرة؛ فأراد القدر أن يطيل اللحظة وأن يمهل الزمن. استقر كل شيء في مكانه. هدأت أنفاسها، زالت رعشتها، غاصت في عينيه، وقد اتسعت ابتسامته لها عبر ذلك العالم البعيد. كان يبدو سعيدا ورأس الطفلة النائم يتوسد كتفها الجميل. سالت دمعتها وقد فهمت مغزى بسمته الأخيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى