الناقِد بين الرأي الشخصي و المهنية …. مقال بقلم مدحت صلاح

النُّصوصُ المُبْهَمةُ بعضَ الشيءِ عن قصدٍ وليس عَنْ عبَثٍ، تِلكَ التي تَحملُ بعضًا مِن الإسقاطِ الرَمزي أو حَتىٰ ذاتُ النهاياتِ المَفتوحةِ؛ تمامًا كاللّوحاتِ السيريالية، “يُعْرِبُ” عَنها الفنّانُ بريشتِه، ولكنّهُ لا يشرحُها أبدًا، وكذلك الكاتبُ “يُعبّرُ” بقلمِه، وعَلىٰ المُتلقّي إمعانُ الخيالِ كُلٌّ عَلىٰ حدةٍ… حَسبَ مُعطياتِه وثقافتِه، وهذا هو الإبداعُ.

أوّلًا، وابتداءً، لا بُدّ مِن التمييزِ الواضح بينَ الرأيِ الشخصيّ والنقدِ المهنيّ؛ فشتّانَ ما بينهما.
فالرأيُ حقٌّ مَكفولٌ لكُلّ إنسان، يَسَعُه أن يُعبِّر عَنه كيف شاء، ما دام لمْ يُردْ فرضَه عَلىٰ غيره أو الانتقاص مِن آراء الآخرين.
أمّا النقدُ، فمجالٌ لا يُرتَجَل، وهو علمٌ قائمٌ عَلىَ أُسسٍ ومعاييرَ راسخةٍ، لا حيادَ عنها، يُكتسَب بالرُّوِيّة والدُّربة، وتُؤسِّسُه سنواتٌ مِن الدِراسةِ والخبرةِ والتعمّقِ في فَهْم النصوص وتحليلها.

ولذلك أكرهُ ليَّ أعناقِ النُصوصِ للحصولِ عَلىٰ مغزًى ما!! ولهذا يُقال: “المَعنىٰ في بطنِ الشَاعر”، كَما يُبهِرني، بقدْرِ الاستفزازِ، هذا “الناقِد” الذي يُمتدِحُ عَملًا مِنْ تِلك النَوعية، أو ينسبُ إليه مَا ليس فيه، فأرىٰ أنه لا يُمتدِحُ النصَّ ذاتَهُ بقدْرِ ما يُمتدِحُ نفسَهُ، استعراضًا لعبقريتِه الفذّة، مُستخدمًا أدواتِه وأسلحتِه “الكارتونية”—نعم، كما قرأتموها: الكار-تو-نية—كمَا يُلوح “دون كيشوت” بسيفِه الخشبيّ.

وهو يعلمُ ذلك، بقدْرِ مَا يَعلمُ مدىٰ جهلِه، ولذلك يفعلُ كمَا يفعلُ أيُّ ساحرٍ عَلىٰ خشبةِ المَسرحِ، يُشيرُ بيدِه اليُمنى ليُشتّتَ الانتباهَ، بينمَا يُخرِجُ الأرنبَ مِنْ القبّعةِ بيدِه اليسرىٰ، يُلهيكَ عَنْ لُبّ الجوهرِ لِتتمسّكَ ببريقِ القشورِ. يترُكُ الأسسَ والقواعدَ المُتعارَفَ عليها في بناءِ أيِّ نصٍّ… يترُكُ وحدةَ النصِّ، يترُكُ صياغةَ الجملِ وتراكيبَها، يُهملُ الصورَ الجماليةَ من سجعٍ وجناسٍ وطباقٍ…
يَتجاهلُ الإسقاطَ في رسمِ الشخصياتِ، وقوّةَ الحبكةِ إنْ كانَ النصُّ روائيًا أو قصصيًّا، أو إنْ كان نصًّا شِعريًا يتغافلُ عَنْ الوزنِ والكسورِ والعَروضِ ووحدةِ البيتِ، مُتناسيًا عَنْ عَمدٍ أو جهلٍ أنّ حتىٰ “الشعرَ الحُرَّ” يَخضعُ للعديدِ مِنَ القواعد، وحتىٰ شعرَ العاميةِ والشعرَ الغنائيّ—وهذا الأخيرُ، عَلىٰ الرغمِ مِنْ بساطتِه الواضحةِ، إلّا أنه السهلُ المُمْتنعُ وأصعبُها عَلىٰ الإطلاق—إذْ يخضعُ في صياغتِه لقواعدِ النصِّ مِن جهةٍ، ومِن الأخرىٰ للمقاماتِ الموسيقيةِ.

ليتّجهَ بنا إلىٰ استخدامِ مُفرداتٍ غَريبةٍ غربية مًحفوظةٍ؛ تُناسِبُ أيَّ نصٍّ للدلالةِ عَلىٰ عُمقِ النقدِ—أو هذا ما يعتقدُه وينخدعُ به كثيرٌ مِن أشباهِ المُثقّفين—مثل: “سرمديّةُ العدمِ”، “أيديولوجيةُ اللغةِ”، “الواقعيّةُ السحريةُ”… إلخ.

بلْ قدْ يصلُ به التحليلُ إلىٰ مَا لمْ يَصِلْ إليه خيالُ الكاتبِ نفسِه، ولا خَطَرَ عَلىَ قلبِ شاعرٍ! بنفسِ النظريةِ السينمائيةِ: “دعني أخدعك، فانخدِعْ!”

وعِندمَا أتكلمُ عَنْ تِلكَ النصوصِ، أقصِدُ بطبيعةِ الحالِ تِلكَ التي تنطبِقُ عليها كافّةُ القواعدِ والأسسِ المُتعارفِ عَليها، سواء أكان النصُّ أدبيًا أو شِعريًا. ولا أتكلمُ بطبيعةِ الحالِ عن تلكَ التي أتتْ كوابيسَ لكاتبِها بعدَ وجبةٍ دسمةٍ عَلىٰ العشاءِ، ونامَ ليحلُم، ثمْ استيقظَ ليكتبَ أضغاثَ أحلامِه!

وكما أنّ هناكَ ظاهرةً تُسمّىٰ مُغالطةَ التقويضِ بانعدامِ المَعنىٰ، فهي:
قد يحدثُ أن “ناقدًا” يقرأُ نصًّا فيشعرُ أنه لمْ يَفهمْه، أو يَشعرُ بالغيرةِ مِنْ صاحبِه، مَصحوبًا باستثارةِ عُقدةِ النقصِ لديه، فيطْفَقُ يُقلّلُ مِنْ قيمةِ ما قرأ أو سَمع، حتىٰ يدفعَ عَنْ نفسِه الشعورَ بالجهلِ أو قلّةِ الفهمِ. ويذهبُ البعضُ إلىٰ النَّيلِ—أحيانًا—مِن الكاتبِ، ساحِبًا تقويضَ المعنىٰ إلىٰ تقويضِ كاتبِه، وبهذا يُحقّقُ الفاعلُ توازنًا نفسيًا يُعوّضُه الشعورُ بالنقصِ.

ولا أُنكِرُ الدورَ البنّاءَ المُلقىٰ على عاتقِ “الناقِد” الدارِسِ الحقيقيّ، سواء بالمدحِ أو الذمّ، هذا “الناقِد” الذي يُسخِّرُ قلمَه لرفعةِ شأنِ الأدبِ الذي يستحقُّ، وليس لرفعةِ أشخاصٍ لا يستحقّون.

في النهايةِ، أُشيرُ فقط إلىٰ أنهُ عِندَ النقدِ، هُناكَ بينَ الصراحةِ والوقاحةِ شعرةٌ… تُسمّىٰ: الأسلوب.
…………….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى