“القناع” قصة قصيرة بقلم/محمد كمال سالم

الأرضيّةُ الرُّخاميةُ البيضاءُ، وكذلك الجدرانُ المَطليَّةُ باللَّون الأبيضِ الشَّاهي، أكسبَتِ المكانَ إحساسًا بالرحابةِ والرَّاحةِ النفسيّةِ. صُورُ النِّساءِ الحَسْناواتِ المُعلَّقةُ على الجدرانِ فوقَ الأرائكِ زيتيةِ اللَّونِ أكسبَتْهُ أيضًا فَخامةً وثَراءً.

صُورةٌ رائقةٌ صافيةٌ تناسبُ المكانَ، لا يُعَكِّرُ صَفْوَها إلا هاتانِ المَرأتانِ المُتوترتانِ، تتعجلانِ دخولَهُما للطبيبِ، كلٌّ منهما تدَّعي أنَّها أحقُّ بالدخولِ.
كانت إحداهُما ابتسامتُها لا تَزُولُ، بينما الأُخرى كانت عابسةً طولَ الوقتِ.

تستعينُ مُوظَّفةُ استقبالِ العِيادةِ بالطبيبِ. يَطلُبُ ملفَّيهِما حتى يَطَّلِعَ على الحالَتينِ، ولكنَّهُ عندما وقعَ بَصَرُهُ على المَلَفَّيْنِ؛ ابتسمَ ابتسامةً ذاتَ مغزًى وألقى بظَهْرِهِ على كُرسيِّهِ الفاخِرِ يَعبَثُ بقَلَمِهِ في فَمِهِ.

كُنتُ أتوقَّعُ عَوْدَتَهما، لكنْ ليسَ بهذهِ السُّرعةِ! لم يَمُرَّ على العمليَّةِ الجراحيَّةِ إلا ثلاثُ سنواتٍ، وكما جاءَتا معًا، عادَتا معًا!

هل قَصَّرتُ في نَصيحَتيهِما عن ما أَقدَمْنَ عليه؟ أَظُنُّ أنّي لم أَفعَلْ بالقدرِ الكافي. كان بمقدوري أن أبذُلَ المزيدَ لإثنائِهِما عن هذا، ربما أَغْراني ما كنتُ سَأتقاضاهُ نظيرَ تلكَ العمليَّتَيْنِ، وهذا ما ثَبَّطَ عَزيمَتي.
الكَسْبُ الفاحشُ منَ التَّسَوُّلِ، من استدرارِ عَطْفِ النَّاسِ والإغداقِ عليها بالتبرُّعِ، أَشْعَلَ لدَيها الجَشَعَ في أَوْجِ صُورِهِ، والرغبةَ في عدمِ التوقُّفِ عن هذا النَّهمِ. لما كثُرَتِ النِّعمةُ عندَها وطَغَتِ السَّعادةُ على بُؤسِها وأصبحتْ لا تستطيعُ أنْ تَتصنَّعَ الحُزْنَ والبُؤسَ؛ لم تَجِدْ غَيْري لأَرسمَهُ على وَجْهِها مدى الحياة.

كلما سمعتُ أخبارَ ثروتِها التي اتَّسعَتْ، واكتنازِها الذَّهَبَ والعُملةَ الصعبةَ التي يرتفعُ ثمنُها كلَّ ساعةٍ، وإنكارِها فضيلةَ التَّكافُلِ، حتى إنَّها اشتهرتْ بمقولةٍ شهيرةٍ: “كيفَ لِشَحَّاذةٍ أنْ تَتصدَّقَ على الفُقَراءِ؟”
كُنتُ على يقينٍ أنَّها لن تحتملَ، أنَّها ستحتاجُ إلى ابتسامةٍ تَمنَحُها لحبيبٍ، ولن تَحصُلَ عليها. ولكنَّ أُمْنيتي لم تَتحقَّقْ، بأن تَلجَأَ إلى غَيري عندما يحدثُ هذا.

تمنَّيتُ أيضًا ليلتَها لو أنَّ العِلمَ توصَّلَ إلى إمكانيَّةِ تَبادُلِ أوجُهِ البَشرِ؛ كانتْ ستكونُ العمليَّةُ أَسهلَ كثيرًا.

السَّهرُ والرَّقصُ معَ رُوَّادِ الكازينو يتطلَّبُ دائمًا وَجْهًا صَبوحًا لا يَتوقَّفُ عن الضَّحكِ وإلَّا فقدَتْ عَمَلَها. قُلتُ حينَها:

حياةُ المَرءِ بينَ السَّعادةِ والحُزْنِ تتأرجحُ، كيف أُوافِقُ أنْ أفعَلَ فيهما هذا؟ كُنتُ أعرِفُ أنَّها ستحتاجُ بشدَّةٍ أنْ تَبكي، أنْ تَرى عيونَ النَّاسِ حُزْنَها، أنْ تَظهَرَ سَعادَتُها جليَّةً لسعادةِ أَحبَّتِها، يومَ زواجِ ابنتِها، ويومَ نجاحِها. كيفَ ستُقابلُ ابنَها بهذا الوجهِ العَبوسِ يومَ أنْ يَعودَ منتصرًا أو غانمًا من عملٍ بعدَ غُربةٍ طويلةٍ؟

أفاقَ على أصواتِ جَلبةٍ تأتي من الخارجِ، بينما موظَّفةُ الاستقبالِ تُتعجلُهُ.
أزاحَ المَلَفَّيْنِ على جانبِ المَكتبِ، تناولَ وَرقةً بيضاءَ خاليةً، وبدأ يَكتبُ:

أنا الموقِّعَ أدناهُ الدكتور (…)
تبرَّعتُ بعيادتي هذه لمستشفى علاجِ الحروقِ الخيريِّ، هذا وأنا بكاملِ عقلي وحُرِّ اختيارِي.
وأني لم أعملْ من الآنَ و هوصاعدًا إلا في قسمِ استقبالِ الحوادثِ.

اقرأ باقي العدد ١٤

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى