الـوجبة المُـغَـلّــفَـة ….قصة قصيرة بقلم سنيّة أبو النصر


الـوجبة المُـغَـلّــفَـة ….قصة قصيرة بقلم سنيّة أبو النصر

لم أترك بابًا إلا طرقته بحثًا عنه… أين ذهب؟! لا أعلم… ماذا حدث له ليتركنا هكذا؟ لا أفهم…
فهو بالنسبة لي كالماء والهواء… حب العمر الذي يحتضر بعد أن أنهكته المقاومة أمام عجلة الحياة القاسية وطلبات الفتيات التي لا تنتهي، مع غلاء الأسعار وزهد المرتبات…
هل حدث له مكروه؟ ربما… كان دائم الشكوى من قدميه، فقد عصرهما التعب وأصبحتا لا تتحملان المشي كثيرًا…
أو ربما فقد الوعي مكتئبًا من حديثي معه بالأمس… لم أقصد إيذاءه أبدًا،
فهو قُرّة عيني برغم كل ما حدث…
قلت له مرارًا: لا تُعاش الحياة بدون عمل وجِدّ واجتهاد ومثابرة،
وهو كسول حتى عن صحته…
كان يعمل حارس أمن بإحدى الشركات، ومن كثرة غيابه عن العمل وإهماله الشديد لصحته، تم فصله. ولهذا نهرته…
كان لابد أن يصمد ويتحمل من أجل الفتيات… تركني غاضبًا ورحل، وهذا ما يعتصر قلبي حزنًا من أجله…
مرت أعوام نبحث عنه في كل مكان ولم نجده… شُلّ تفكيري ويئست من كثرة غيابه، حتى ظننته مات… عام وراء عام… حتى استقرت الفكرة في رأسي وسلّمت أمري لله…
وتهافتت الإغراءات وعروض الزواج والتودد من كل من كان قريبًا منا…
يا سبحان الله، وكأنهم كانوا ينتظرون موته! وقعت الأقنعة وظهرت الوجوه اللئيمة…
رفضتُ كل العروض، وجعلت من حضني وطنًا لبناتي يشعرن فيه بالأمان… ولكن
كان لابد أن أتحمّل المسؤولية، وقبلتُ عروض العمل في المنازل، فكان هو المتاح وقتها،
لكن لم يكن الأمر سهلًا كما توقعت…
لاحقني كل من كان في قلبه مرض… ينظرون إلى الخادمة وكأنها عاهرة تقبل أي شيء في سبيل المال…
بل يزجّون بها إلى بئر الخطيئة بأموالهم، تحت ضغط ضعفها واحتياجها للمال…
فمنهن من تقع في الفخوخ المنصوبة، وكثيرات منهن من يَفِررن إلى بر الأمان ويخترن الشقاء واللقمة الحلال…
تركتُ هذا العمل هربًا إلى الطريق المستقيم، وظللتُ لمدة عام أنتقل من عمل إلى آخر، حتى هداني الله إلى فكرة تجعلني بجوار أسرتي دون إرهاق.
كنت لا أمتلك مالًا كثيرًا، فاستعنتُ بغرفة نومي وعرضتُها للبيع، وبثمنها اشتريت أدوات منزلية وعرضتُها بسعر أقل من ثمنها في السوق.
وعبر صفحات الإنترنت، تجولتُ هنا وهناك أُعلِن عن بضاعتي، وسعيتُ في الأرض مجتهدة أشتري وأبيع، والحمد لله، صار الأمر جيدًا.
كنت لا أنام بمعنى الكلمة… ربيتُ بناتي بما يُرضي الله، ولم أُقصِّر أبدًا في واجبي نحوهن.
كلما انحنى ظهري من التعب، أنظر إليهن وهنّ منكبات على الكتب، فيشتد عودي لأُكمِل مسيرتي كامرأة مجتهدة لا تكلّ ولا تتعب، بعد أن خذلها الرجل.
كبر مشروعي، وأصبح الآن لديّ محل، ومع الاجتهاد والمثابرة كبر المحل وأصبح مركزًا كبيرًا به كل ما يحتاجه المنزل الحديث.
ودخلتُ عالم غرف النوم والأنتريهات، ووفقني الله، وجازاني خيرًا، والحمد لله، أصبحتُ من أصحاب المال.
تخرجت ابنتي الكبرى من كلية الهندسة، ولاحقتها أختها الصغرى في الكلية نفسها.
وبنتاي الصغيرتان: إحداهما في كلية الطب، والأخرى ما تزال في الثانوية العامة.
كانت فرحتي ببناتي هي الثمرة التي قطفتُها بعد تعب.
ذهبنا إلى أحد المطاعم الفخمة لنحتفل، وقبل أن نرحل طلبت ابنتي الكبرى وجبة مغلّفة.
تعجبتُ من ذلك: هل ما زلتِ جائعة؟
فقالت: لا يا أمي، هي لأحد الفقراء في الطريق.
ابتسمتُ فرحًا من رقة قلبها، وحمدتُ الله على ما أجنيه من تربيتي لهن.
الحمد لله.
استقللنا السيارة، والبنات فرحات يغنين ويهللن، حتى كدت أن أنسى أمر الوجبة المغلّفة.
ثم وقفت السيارة فجأة، فإذا هو برجل تحت أحد الكباري، تختفي ملامح وجهه من كثرة لحيته البيضاء، ولا تعلم لون قميصه من كثرة اتساخه وتهلّله.
لكن قلبي دلّني، عندما سمعتُ صوته يدعو لابنتي وهي تعطيه الطعام.
رنين صوته في قلبي أعرفه… فخرجتُ من السيارة أنظر إليه بشغف حتى أعرفه.
ثم جلستُ راكعة أمامه، أطيل النظر إليه… ذُهلتُ من شدة المفاجأة.
نعم، هو… هو…
كتمتُ أنفاسي بكفّ يدي، وسالت الدموع بألم.
التفَّت من حولي الفتيات مندهشات يتساءلن: من هذا الذي يُبكيك؟ هل تعرفينه؟
ماذا أقول لهن؟ لا أعلم… بل ماذا أقول لقلبي حتى يسامحه؟
وإن سامحه على هروبه من رعيته…
فهل تسامح الرعية راعيها على تخليه عنها؟!