“الطاغية” … الحلقة الثالثة … سلسلة بقلم محمد كمال سالم

وأوفت ريحانة بموعدها، وأمّ الخطى، حين كان يتربّص بها الملعون أبرهة وجنوده. وراحت أمّ الخطى تعيد وتؤكّد لريحانة ما قالته بالأمس عن بركة ينبوع الملكة بلقيس وكراماته، حتى إنْ خلعت المسكينة ريحانة ثيابها ونزلت في ماء النبع، وما إن فعلت ذلك حتى داهمها أبرهة، وألقى بعباءته النفيسة لجنوده ليحملوها فيها إلى القصر، وسط ضحكات العجوز وأبرهة، ووسط صراخ ريحانة واستغاثاتها التي ما عادت تُنجي أو تُجير…

وفي تلك الأثناء، كانت قد وصلت حملة الحارث بن قيس، وعلى رأسها أسد وأشجع، إلى بيت أختها بدار، ولم يجدوا ريحانة، فقَصَّت عليهم بدار ما كان من أمر ريحانة وموعدها مع العجوز…

فَطِن الفارسان إلى أن تلك القصة ما هي إلا فخّ نُصب لريحانة، ولا بد أنها الآن في خطر. فأجمعوا حملتهم، وجَدُّوا في العدو صوب نبع بلقيس. ولما بلغوه، ولم يجدوا شيئًا سوى ثياب ريحانة فوق حافة النبع، توجهوا مسرعين صوب قصر أبرهة. وعلى بُعد خطوات من أسوار القصر، وجدوا موكب أبرهة يكاد يبلغ القصر، وصوت ريحانة يبكي ويستغيث.

هاجم أسد وأشجع موكب أبرهة وجنوده، ودارت معركة حامية الوطيس، أبلى فيها الفارسان وجنودهما بلاءً حسنًا، وكادا أن يُخلّصا ريحانة. ولكن سرعان ما أغاث أبرهةَ جيشٌ كثيف من حرس القصر، وتكاثروا على شجاعة الفارسين وجنودهما، وتغلّبوا عليهم، وصرعوهم جميعًا، وقُتِل أسد وأشجع. وأمر أبرهة أن تُعلَّق رأسيهما على أسوار القصر.

كان وقع الخبر في صنعاء رهيبًا مرعبًا، باتت فيه المدينة وأصبحت في غمٍّ ونكد.
وغابت بدار، أخت ريحانة، أيامًا طويلة عن وعيها، ولم تستطع أن تعفي نفسها من المسؤولية عمّا حدث لأختها، وباتت وأصبحت في حزن كبير.
لم تفق بدار إلا على ابنتها (نُوار، خطيبة سيف بن ذي يزن) وقد ارتدت لباس الرجال، وتلثّمت، وعقدت العزم على اللحاق بسيف، خطيبها، في اليمامة، لتخبره بما كان.

لم تستطع بدار أن تُثني ابنتها نُوار عمّا عزمت عليه، وكان والد نُوار، زوج بدار، رجلًا صاحب مال وأسفار، وكان في قافلة تجارية إلى الهند…

وودّعت نُوار أمها، وامتطت الصحراء قاصدة سيف.

“في القصر”
يراود أبرهةُ ريحانةَ عن نفسها صباحًا ومساءً، وريحانة تبكي صباحًا ومساءً، ولم تجد مع غلظته مقولتها: “ارحمْ عزيزَ قومٍ ذلّ”… فـ”اغتصبها”… كما اغتصب الأرض والقوت، كدأب كل طاغية.

وتقطع نُوار كبدَ الصحراء وحدها، تتصنّع صوت الرجال، مُلثّمةً، سائِلة القوافل عن طريق اليمامة، وما جنبها أهوالَ الطريق إلا رعاية الله، ثم لباس الرجال… وبلغت نُوار اليمامة.

وكاد الحارث بن قيس وضيفاه أن يموتوا كمَدًا بنبأ أسر ريحانة، وحزنًا على أسد وأشجع.
ثار وهاج ذو يزن وولده سيف، وأعلنا نيتهما مغادرة اليمامة إلى صنعاء، فليس من المروءة أو الشجاعة أن يظلا فيها آمنَين، وشرفُهما مهدور في صنعاء، وأمهما سبية في قصر الطاغية. ولكن…

استطاع الحارث بن قيس بالحُجّة والعقل أن يُثنيَهما عن الاندفاع وراء غضبهما، وقد أعمتهما ثورة الثأر عن إدراك قدرتهما على فعل شيء الآن، وأنه لا بد من التفكير والتدبير، ثم التصرف. فاقتنعا بكلام الحارث لما فيه من منطق. (وكان لهذا ثمنٌ باهظ.)

انخرطوا في اليمامة جادّين في تجهيز جيش كبير، وإعداد جنوده لخوض حرب على أبرهة والقضاء عليه. وبقيت المعضلة في كيفية القضاء على وحوش جيشه ومناعته وتحصنه في قصره.

“في القصر”
تسوء حالة ريحانة، وأصبحت تذبل كل يوم عن سابقه.
ولما رآها أبرهة تحاول الانتحار أكثر من مرة، عيّن لها حرسًا شديدًا، واعتاد الاعتداء عليها، حتى أضحت “جُفن سلاح” سِفاحًا (حاملًا منه).
وأصبح أبرهة سعيدًا بما تحمله ريحانة بين أحشائها إليه، ولكن ريحانة لفظت حياتها التي دمرها الطاغية، وحرّمت على نفسها العيش وأجنّتها، وقررت القضاء عليهم بطريقة أخرى.
فامتنعت عن الطعام والشراب، وصبرت وجَلَدت على ذلك، ولكن يفاجئها المخاض وهي على تلك الحال…

وتسرّبت أخبارها من جدران القصر وأسواره المنيعة، ووصلت تلك الأخبار إلى أختها بدار (فلا سرّ يختبئ في المدينة).
فتسلّلت بدار تحوم حول أسوار القصر، علّها تطمئن على أختها السبية، أو تستطيع أن تخبرها أنها إلى جوارها، وليست وحدها.

ولكن يقبض عليها أحدُ حُرّاس القصر الجوالين، وعرف بأمرها، وسلّمها إلى أبرهة.
ولما كان أبرهة في لهفةٍ لوليده الذي تحمله ريحانة، جلس عند رأسها، والقابضة (الداية) تحاول انتزاع وليدها الحي من الميت، فقد كانت ريحانة تحتضر.

لكن ريحانة تستجمع ما تبقى فيها من عزم، وتستُلّ خنجر أبرهة من غمده وهو في غفلة، وتطعن فؤادها طعنة واحدة أودت بحياتها في لحظة.

هنا جنّ جنون أبرهة اللعين، وأمر القابضة أن تشقّ بطنها وتستخرج الوليد من بين أحشائها، فبشّرته القابضة أن الوليد حي، وأنهما توأم: ذكر وأنثى.

فيسعد بهما الطاغية أيّما سعادة، ويقول: “أما الغلام فسأسميه مسروقًا، فقد سرقته من أمه الميتة، والبنت سأسميها بَسّباسة، تيمّنًا باسم أمي بَسّباسة أم أبرهة العظيم.”

ثم أرسل في إحضار بدار، أخت ريحانة المقبوض عليها، وخيّرها بين البقاء في القصر سبية ترعى الطفلين، أو أن تُقتل وتلحق بأختها. فاختارت الأولى صاغرة.

“وفي اليمامة”
يطير الخبر إلى ذي يزن وولده سيف بمقتل ريحانة، وما كان من أمر ولادتها، فيقع عليهما الخبر وقع النوازل والخطوب، ويصيب كبرياءهما في مقتل.
فينهج ذو يزن نهج زوجته وحبيبته ريحانة، ويستلّ خنجره، ويطعن فؤاده، ويقع صريعًا بين يدي ولده سيف، وما زال الرسول الذي أتى بالخبر لم يغادرهما…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى