“الرجولة المشوهة وسطوة النرجسية “….مقالبقلم منى الشوربجي


“الرجولة المشوهة وسطوة النرجسية “….مقال
بقلم منى الشوربجي

في عمق العلاقات الإنسانية، تُعد الأسرة النواة الأولى التي تتشكل فيها معالم الوعي، وتتجذر منها القيم، وتُبذر فيها بذور الفهم الذاتي والعلاقة بالآخر. غير أن هذه النواة، حين تكون مشوهة، لا تفرز إلا وعياً مشوشاً، ينمو ليُصبح سلوكاً مضطرباً.
ثمة نماذج ذكورية نشأت في بيئات اختُزلت فيها الرجولة في السيطرة، وتُرجمت القوة إلى تعالٍ صوتي وعضلي، وفُهمت القيادة على أنها قمع، لا رعاية. وفي هذا السياق ، قد يُلبس قناع الرجولة وهو في جوهره انعدام للاتزان وفقدان للهوية الحقة .فأحيانا نجد رجلاً يطغى عليه طابع النرجسية، يرى في ذاته محور العالم، ومن خلال نرجسيته يجد تأكيد وجوده المزعزع. نراه يجلد زوجته إما بالكلمات، وأحياناً بالأيدي، ثم يَحتمي بموروث سقيم، مبرراً أفعاله بشعار “هكذا تربيت”، وكأنما التنشئة كانت قدراً لا خياراً.
هذه النرجسية، وإن بدت متجذّرة في سلوكه ، إلا أنها امتداد لصورة سلبية مر بها وعاشها في طفولته؛ حيث ساد التسلط، وغابت القدوة، واختلت صورة الأب الذي ربما كان هشّاً أمام سطوة الأم، فكبر الابن وهو لا يحمل من مفهوم الرجولة سوى الأصداء المشوَّهة للتسلط، لا الجوهر العميق للقيادة الرشيدة.
ويعيد الزمن ذاته بأحداثه حين ينتقل هذا النموذج إلى الجيل الجديد. فابن هذا الرجل، وقد ترعرع في ظل صورة مشوهة لأبيه، أصبح يعاني من ارتباك داخلي. لا يجد سنداً أبويّاً يرشد خطاه، ولا كلمات تحتضن تردده. فيكبر مرتبكاً بين نداء داخلي يدعوه للرحمة والحكمة، وموروث خارجي يُملي عليه أن يكون “رجلاً” بالصوت العالي والتحدي والتشبث بالرأي.
ويصل الارتباك ذروته حين يقف هذا الشاب أمام استحقاق مصيري كاختيار شريكة الحياة. إنه لا يعرف: هل يستمر في علاقة بدأت بوعد الحب، أم ينسحب ؛ لأنه غير قادر على الخروج من عباءة والده؟ إنه يدرك في أعماقه أن تكرار نموذج أبيه لن يصنع رجولة، بل سيُعيد مأساة امرأة جديدة، وربما أبناء آخرين سيكونون ضحايا لحلقة جديدة من التشوه.
الفلسفة، بطبيعتها، تُعلمنا أن السؤال هو بداية الوعي. والسؤال الجوهري هنا ليس عن الاستمرار أو الانسحاب فقط، بل: ما معنى أن تكون رجلاً؟ هل الرجولة صوت مرتفع، أم صوت الضمير حين يهمس بالعدل؟ هل هي قدرة على القمع، أم شجاعة في الاحتواء؟ هل هي تكرار لما كان، أم خلق لما يجب أن يكون؟
إن الخروج من دائرة العنف الوراثي ليس سهلاً، لكنه ممكن. مع وجود بعض من خيوط التوازن التي تحملها الأم السوية فتبدأ الرحلة حين يختار الإنسان أن يرى ماضيه ؛ لا كحتمية، بل كدرس، وأن يتصالح مع فكرة أن الرجولة لا تُورَّث، بل تُبنى بجهد داخلي، وبسعي مستمر نحو التوازن والرحمة والمسؤولية واستعمال العقل واكتساب الخبرات من ما حوله من رجال العائلة هادئي الطباع وأصحاب المشاعر والرحمة بالآخرين .
فلنا أن نعرف أن الرجل الذي يضرب زوجته، أو يهينها، لا يُثبت رجولته، بل يُفصح عن خوفه من أن يُنظر إليه كضعيف. أما الرجل الحقيقي، فهو من لا يخاف أن يُحِب، ولا يخجل أن يستمع، ولا يتردد في أن يتغير. ونضمن معه تنشئة أجيال صانعة للنجاح والتفاخر .