الذكاء الاصطناعي والإختيار ( إيلوى أو مورلوك )مقال بقلم: د. أحمد دبيان


الذكاء الاصطناعي والإختيار ( إيلوى أو مورلوك )
مقال بقلم: د. أحمد دبيان

في عصر تتسارع فيه الخطى نحو الرقمنة والتطور التكنولوجي، يقف الذكاء الاصطناعي (AI) في صدارة المشهد، حاملاً معه وعودًا كبرى بالتقدم والرقي، كما يثير في الوقت ذاته مخاوف عميقة تتعلق بالبطالة وفقدان الوظائف. فهل الذكاء الاصطناعي نعمة عصرنا أم نقمته ؟ الإجابة ليست أحادية، بل شديدة التعقيد ، وتتطلب تأملًا عميقًا في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية.
من منظور النعمة، لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي قد أحدث طفرة هائلة في مختلف المجالات: من الصحة والتعليم إلى الصناعة والخدمات.
فالتطبيقات الذكية تسهم اليوم في تشخيص الأمراض بدقة تفوق بعض الأطباء، وتقدم حلولاً تعليمية مخصصة، وتُحسّن كفاءة الإنتاج في المصانع، بل وتدير الأنظمة المرورية في المدن الذكية. كل هذه الإنجازات تساهم في تحسين جودة الحياة وزيادة الإنتاجية، وتفتح آفاقاً جديدة لابتكار وظائف ومجالات لم تكن موجودة من قبل.
إلا أن هذه النعمة لا تخلو من وجه مظلم. فالذكاء الاصطناعي، بحكم طبيعته، يعتمد على الأوتوماتيكيه أو الأتمته
Automatism
والتشغيل الذاتي، مما أدى – ويؤدي – إلى تقليص الحاجة إلى اليد العاملة البشرية في بعض القطاعات مثل العاملين في مجالات تكرارية والتى تعتمد على المهارات الروتينية مثل موظفي مراكز الاتصال، وسائقي الشاحنات، بل وحتى بعض المهن المكتبية قد باتوا مهددين بفقدان وظائفهم لمصلحة أنظمة ذكية لا تتعب ولا يعطيها قانون العمل والعمال حق إجازات مدفوعة الأجر ما يمنح رأس المال فائض قيمة شديد الربحية ليحل الذكاء الاصطناعى محل المنظومة العظمى فى وسائل الإنتاج .
هنا تبرز قضية البطالة، ليس فقط من زاوية الأرقام، بل من زاوية العدالة الإجتماعية والإقتصادية. فالمتضررون غالبًا هم من ينتمون إلى الطبقات العاملة والمتوسطة، ما يوسع فجوة الدخل ويهدد الاستقرار المجتمعي. والأسوء من ذلك، أن وتيرة التغير أسرع من قدرة كثير من الأفراد على إعادة التأهيل أو التكيف، مما يترك شرائح واسعة خارج سوق العمل.
هنا يطرح الأمر فى جدلية التعاطى
أليس في كل نقمة بذرة نعمة؟
إن التحدي الحقيقي ليس في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في كيفية توظيفه. فكما استبدل المحراث اليدوي بالآلي دون أن تُلغى الزراعة، يمكن أن يُوظف الذكاء الاصطناعي لتكملة عمل الإنسان لا لإستبداله. بل يمكن أن يكون أداة لتحرير الإنسان من الأعمال المرهقة، ليتفرغ للمهام الإبداعية والإنسانية و التي لا يمكن للآلة أن تؤديها.
ما نحتاجه اليوم هو رؤية واضحة ومتكاملة، تتبناها الدول والحكومات، تقوم على الاستثمار في التعليم المستقبلي، وتطوير المهارات الرقمية، ووضع تشريعات تحمي العامل العادى غير المبدع دون أن تعرقل التقدم. فعلينا أن نؤسس لعقد اجتماعي جديد، يكون فيه الذكاء الاصطناعي خادمًا للبشرية، لا سيدًا عليها.
إن الذكاء الاصطناعي ليس نعمة مطلقة ولا نقمة حتمية، بل هو أداة في يد من يحسن استخدامها. فإما أن نكون من صُنّاع هذا المستقبل، أو من ضحاياه.
في رواية “آلة الزمن” ، يصور هربرت جون ويلز عالماً مستقبلياً بعيداً، تنقسم فيه البشرية إلى طبقتين متناقضتين:
الإيلوي Eloi، وهم كائنات رخوة تعيش في سطح الأرض حياة ترف خالية من التحديات، والمورلوك Morlocks، الذين يعيشون في أعماق الأرض ويعملون بلا توقف. هذه الصورة الرمزية جاءت نتاج تطور صناعي طويل ألغى الصراع، لكنه في المقابل ألغى الإرادة والروح البشرية.
إذا أسقطنا هذه الرؤية على واقعنا مع الذكاء الاصطناعي، فإننا نطرح سؤالاً شبيهاً:
هل نحن بصدد التحوّل إلى “إيلوي” جدد، نعيش على سطح عالمٍ رقمي تديره أنظمة ذكية دون أن نعي آلياته أو نمتلك القدرة على تغييره؟ أم أننا مهددون بأن نصبح “مورلوك”، عبيداً لهذه الأنظمة، نعمل في الظل لتغذيتها دون أن نحظى بحقوق أو مكانة؟
الذكاء الاصطناعي، كما تصوّره مقالنا، يمكن أن يكون وسيلة لتحرير الإنسان من الأعمال المتكررة والمرهقة، تماماً كما كانت “آلة الزمن” رمزاً لتحرر العقل من قيود الحاضر. لكنه في الوقت نفسه قد يكون وسيلة لفصام اجتماعي حاد، كما رأينا في مستقبل ويلز، حين يؤدي التقدّم التقني إلى تفاوت طبقي مرعب، ونسيان الإنسان لقيمه الأصلية.
لعل الربط الأعمق بين الذكاء الاصطناعي وآلة الزمن يكمن في السيطرة على المستقبل. فكما ابتكر بطل ويلز آلته ليعرف مصير البشرية، نحن اليوم نصنع “آلة زمننا” الرقمية، دون أن نضمن أين ستقودنا. إنها ليست آلة معدنية هذه المرة، بل كودات خفية تحكم الوظائف، وتقرر مصائر، وتعيد تشكيل الوعي البشري عبر الخوارزميات.
في النهاية، كما قال هـ. ج. ويلز:
“نحن نعيش في عوالم نصنعها بأفكارنا، ونُحاصَر بها في النهاية.”
والذكاء الاصطناعي هو أبرز هذه “العوالم” اليوم، فلنحسن صنعها قبل أن تصبح هي من تصنعنا.