الحمولة المعرفية في التجربة الشعرية لأحمد عنتر مصطفى – رؤية الشاعر و الناقد محمود حسن

قليلون جدا في التجارب الشعرية المعاصرة هؤلاء الذين وضعوا خارطة طريق وخطة عمل لمشروعهم الإبداعي، ليس هذا فحسب ؛ بعد واحتاطوا للتغيرات المستقبلية، كما يحتاط الاقتصاديون ورجال المال والأعمال مخافة أن تطيح تقلبات السوق بثرواتهم، فطعَّموا – الشعراء – هذه الخطة بكل مقومات المرونة لتستطيع التعايش والتنافس طويلا.

وهذه ليست رؤية نقدية عن تجربة عنتر مصطفى، بل هي تطواف بآرائه في تجربته هو قبل وبعد، بما فيها من ثراء يخدم كل مهتم بالقصيدة العربية بصفة عامة، وبقصيدة عنتر مصطفى بصفة خاصة.

أشرت إلى محاولاتى الأولى فى استيعاب تراثنا الشعرى ونوهت إلى أن مدخلى إلى عالم الشعر كان مدخلا سمعيا ـ إن جاز هذا التعبير ـ فقد كان إيقاع الكلمة وموسيقى العروض الشعرى يهيمنان على وجدانى ويوغلان فى أحاسيسى ما شاء لهما الإيغال؛ كان طبيعيا والحال كذلك أن يكون انتمائى فى البدايات ـ إلى الشكل التقليدى للقصيدة العربية التى تمرستُ والتزمتُ بكتابتها ـ عن تمكن واقتدار كما يرى كثير ممن اقتربوا من تجربتى.
دأبتُ على كتابة قصيدة العمود ـ حتى نكسة العام السابع والستين؛ وتحت وطأتها وجدت نفسى غير قادر على كتابة قصيدة تتسق إيقاعاتها مع إيقاعات نفس مشروخة

لم يكن الإيقاع الزاعق ليستوعب حشرجة الروح المنكسرةِ .. سادنى الصمت عامين خلالهما اقتربت من القصيدة الهامسة فى شعرنا الحديث وقرأت شعر التفعيلة ـ باهتمام بعد ازدرائى له فى بداياتى قرأت السياب والبياتى وصلاح عبدالصبور وحجازي؛ واقتربت من الأخيرين على المستوى الشخصي.
‎وقادنى كل هذا الى قصيدتى الجديدة .. فكانت أول قصيدة لى من شعر التفعيلة أواخر عام 1969 وهى بعنوان (مرثية بائع تين شوكي) وقد اسْتُقبِلَتْ بحفاوة من القراء .. وأذكر أن المرحوم صالح جودت قرأها و عاتبنى فى مكتب الراحل الناقد رجاء النقاش بدار الهلال على (انحرافى عن جادة الطريق !!) و قال لى بالحرف الواحد : «أنا حزين أنك صبأت ..!!) وأردف موجها الحديث إلى الراحل الناقد رجاء النقاش : «لقد فقدت القصيدة العمودية أحد شباب مبدعيها الأصلاء “

بعيدا عن كل هذا؛ يظل الشعر شعرا؛ فى جوهره؛ أيا كان شكله؛ وكل مضمون يخرج فى الشكل الذى يستحيل أن يخرج فى غيره إذا صدق مبدعُه؛ وكل قديم كان جديدا يوما ما؛ وجدلية القديم والجديد ستظل متقدة بديمومة الحياة؛ وأنا لا أجد غضاضة فى كتابة الشكلين؛ بما تمليه عليَّ التجربة ومعايشتها؛. وقد أكتب قصيدة النثر ـ مع اعتراضى على المصطلح ـ إذا دفعتنى التجربة الإنسانية وسطوة الإبداع إلى ذلك؛و بلا غضاضة

‎بقى فى هذا الصدد أن أؤكد أنه فى رأيى لكى يكتب الشاعر قصيدة جيدة فى الشكل التفعيلى أو أيٍ من أشكال الشعر لا بد أن يكون قد اجتاز عبابًا خضمًا عبرالتراث الزاخر؛ حتى يصل إلى قصيدته المائزة حتى لو على سبيل الدُّربة قبل الممارسة الفاعلة

‎كان طبيعيا أن يكون التراث أهم مرتكزات مشروعى الشعرى المتواضع؛ قراءته واستيعابه وهضمه وإعادة إنتاج المائز منه وفيه؛ عبر صيغة معاصرة فنية وتوظيفه أو استلهامه واستيحاؤه ليقوم بدور فاعل فى القصيدة الحديثة؛ معمقا المعنى مؤكدا للابتكار لا التقليد

أيها الجرح لا تفغر الفم أكثر
إنك تزدرد الفقراء
إنهم جثث الحلم فى
الأرض
أوعية الدود فى القبر
حقل التجارب للرب والساسة الزعماء

يا أيها البسطاء
ضيعتكم دروب المنى المستحيلة
فالجنة الآن فى الأرض للأغنياء
ومن يتقنون الرذيلة
وغدا فى السماء
سوف يدخلها القادرون على رشوة الوزراء

ثم يقدم هذا النص العمودي الكلاسيكي الغارق في الرمز والتراث والعصرنة والحرفية والخبرة:

هذا دمي
أو فهذي النارُ تَتْقِدُ
مِنها تَوَضَّأَ في مِحرَابِهِ الأَبَدُ
صلَّى ؛
وبَارَكَ أَرْضًا ؛ تُرْبُها عَبِقٌ
أُسُّ الحضارةِ – في التاريخِ – والعُمُدُ

لكَ السلامُ
تُرَابًا جَلَّ بَارِئهُ
ذَرَّاتُهُ بعبيرِ الطُّهْرِ تَحْتَشِدُ
مَشى عليهِ كَليمُ اللهِ تَكْلَؤُهُ
عينُ السماءِ
فتُخْزِي كلَّ مَنْ رَصَدُوا
تَابُوتُهُ فوق ماءِ النيلِ مُنْسَرِبٌ
تَحُفُّهُ أُخْتُهُ ؛ في الشطّ ؛ تَتَئِدُ

… لكَ السلامُ
تُرَابًا كُلُّهُ أَلَقٌ
تكادُ تُزْهِرُ – إنْ مَسَّتْ حَصَاهُ – يَدُ
وَادٍ سماحَتُهُ عاشتْ خَمَائلُها
يأوِي إليها الحِجَى والنورُ والرَّشَدُ
وَادٍ جَرَى النيلُ فيهِ ظِلَّ مَرْحَمَةٍ
تَفَيّأَتْهُ الدُّنَى والقَيْظُ يَبْتَرِدُ
تَجيئُهُ الطيرُ
عَطشَى في براءتِها
والذئبُ – في خُبْثِهِ أو إِثْمِهِ – يَرِدُ
طُهْرُ القداساتِ فيهِ ؛
والهُدَى رَحِمٌ
يسمو
وَعَانقَ فيهِ الجُمعَةَ الأَحَد



هذا وتحتاج التجربة الشعرية الخاصة والممتدة للشاعر الكبير أحمد عنتر مصطفى جهدا نقديا كبيرا يجمع بينها وبين النقد جمع توفيق لاجمع تلفيق على حد تعبير الدكتور محمد عبد المطلب وبعيدا عن ترزية النقد على حد تعبير الأستاذ/ أحمد عبد المعطي حجازي، ولعل الهيئة العامة لقصور الثقافة ، أو إحدى هيئات وزراة الثقافة المصرية تهدي أحمد عنتر مصطفى في ثمانينته العامرة، إصدارا يجمع هذا ويوثقه.

وأتمنى أن يتاح لي الوقت للوقوف على بعض علامات هذه التجربة الشعرية الكبيرة والمؤثرة، والتي تحمل بعض ملامح الريادة في كثير من جوانبها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى