“الإنسان قبل النوع ” – نحو تفكيك الأساطير الثقافية وتحرير الكرامة من قيد النمط … مقال بقلم سمير ابراهيم زيّان

في زمن يُعاد فيه تشكيل الوعي الإنساني تحت وطأة الانهيارات القيمية والطفرة الرقمية والعولمة العاطفية، آن الأوان لإعادة تعريف الإنسان خارج أسر الثنائية الجندرية، وخارج القفص الحديدي للموروثات الثقافية التي حولت “الرجولة” و”الأنوثة” إلى أدوات قمع رمزية داخل معركة وهمية لا تنتمي إلى الوجود، بل إلى الوهم الجمعي.

فليست الرجولة مجرّد “مسؤولية وجودية”، كما يروّج بعض الخطاب الإصلاحي، لأننا بذلك نُبقي على الذكر في مركز السلطة الرمزية، ونعيد إنتاجه بطبعة “أخلاقية” لا تُزعج الموروث، بل تُطعّمه بقناع جديد. الرجولة – بهذا الفهم – تظل امتيازًا مسكوتًا عنه، ولو جُرِّد من العنف واستُبدِل بالرحمة. لكن ماذا لو أسقطنا المفهوم أصلًا؟
ماذا لو رفضنا أن نُسقط على الإنسان قالبًا بيولوجيًا يتحكم في قيمة حضوره الأخلاقي؟
هل يمكننا أن نتخيل مجتمعًا تُبنى فيه الكرامة لا على ما يولد به الجسد، بل على ما تختاره الروح وتؤكده السلوكيات؟

وأما الأنوثة، فهي لم تُختزل فحسب، بل سُرقت من المرأة، وحُمّلت بصور متضادة: تارةً كجمال جسدي يُستهلك في السوق البصري، وتارة كقيمة صامتة لا تُمنح إلا في مقابل طاعة صاغرة أو احتشام مزعوم. لكن الأنوثة – كما الإنسان – ليست قيمة مقابلة للرجولة، بل طاقة كونية تُجسد في الوعي، في الرأفة، في الصبر، في البناء الداخلي. ولا يليق بها أن تُقدّم كملاذ بديل عندما يفشل الذكور في تربية أنفسهم.

إننا لا نحتاج إلى نساء صالحات في مقابل رجال فاسدين، بل إلى بشر راشدين يتجاوزون الحاجة إلى “تمييز” أخلاقي يُبرّر اللامساواة تحت شعار “الاختلاف في الدور”. هذه هرطقة مقنّعة تُبرّر استدامة السلطة الذكورية.

الخلل ليس في “معايير الرجولة” ولا في “تشويه الأنوثة”، بل في أصل التقسيم الذي استعبد الوعي وجرّده من استقلاله الإنساني. لقد ورثنا منظومة تربوية لا تربي الإنسان، بل تهيّئه ليؤدي دورًا تمثيليًا في مسرح اجتماعي سقفه الانفصام وجدرانه الأحكام المسبقة.
ولذلك، فإن دعوتنا اليوم ليست لإعادة تعريف الرجولة ولا لتحسين صورة الأنوثة، بل لإسقاط الثنائية ذاتها، ونزع الشرعية عن أنظمة القيم التي تفرّق وتُفرغ وتُهندس الوجدان وفق مقاسات تراثية فقدت صلاحيتها.

أبناءنا لا يحتاجون إلى دروس في “كيف تكون رجلًا” أو “امرأة فاضلة”، بل يحتاجون إلى رؤية الإنسان بوصفه مشروعًا أخلاقيًا حرًا، لا بوصفه نسخة مطابقة لوصفة ثقافية عمياء.
المطلوب: تحوّل من “أداء الأدوار” إلى “وعي الذات”، من “الهوية الجندرية” إلى “الكرامة الإنسانية”، من “الانتماء القَبَلي للمفاهيم” إلى مساءلة كل مفهومٍ يراد لنا أن نخشع له بلا نقد.

وختامًا، ليست معركتنا مع الذكور ولا مع الإناث، بل مع الخرافة الكبرى التي جعلت من الرجل قوة ومن المرأة ضعفًا، من الصوت سلطة ومن الصمت فضيلة، من الجسد معركة، ومن الروح ساحة مهملة.
إننا نطالب بعصر جديد لا تُقاس فيه الرجولة بالعضلات ولا الأنوثة بالحياء، بل يُقاس فيه الإنسان بما يختاره من حق، وما يرفضه من ظلم، وما يبنيه من قيمٍ وسط صحراء الصور الخادعة.

فليكن اسمنا محفورًا في ذاكرة الوعي، لا لأننا عدّلنا المفاهيم، بل لأننا تجرأنا على مساءلتها من الجذور.

— سمير زيان
أديب، ناقد اجتماعي، وباحث في الوعي الحضاري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى