”إيزيس”… حين تُكحِّل المرأةُ التاريخَ بصبرها…قراءة في قصيدة الدكتورة ريهان القمري بقلم الباحث و الأديبو الناقد د. سمير زيان

في قصيدتها “إيزيس”، المنشورة في العدد 21 من جريدة على باب مصر، تقدّم الدكتورة ريهان القمري نصًّا شعريًا مشبعًا بالرمزية والعمق، يستدعي الأسطورة ليكتب الحاضر، ويعيدُ للذات الأنثوية مكانتها الكونية بصوت شعريٍّ واعٍ، لا يستجدي الاعتراف، بل يُعيد تشكيل الهوية من الداخل.

منذ العنوان، تستحضر الشاعرة شخصية إيزيس، تلك الإلهة المصرية القديمة، رمز الأنوثة الخالدة، والوفاء، والبعث، والمقاومة في وجه التمزيق والموت، فتبني عليها خطابًا شعريًا حديثًا يلامس التاريخ، ويعانق الإنسان، ويعلن أن المرأة ليست طرفًا في الحكاية، بل هي الحكاية ذاتها.

تكرّر الشاعرة ضمير “أنا” في مطلع كل مقطع لتؤكد امتداد الذات الأنثوية في الزمان والمكان، فتقول:

أنا القمرُ الذي من ليلهم كلّا
ومدَّ ضياءَه أملًا…

ثم تتابع…

أنا الطفلُ الذي طعنوه في مهدٍ…
أنا الأشجارُ في نيسان…
أنا البئرُ التي غرقت بدمعِ عيونِ يوسفها…

هكذا تُمسي “إيزيس” متعدّدة الوجوه: القمر والطفل والشجرة والبئر، الحرب والسِّلم، الكلّ والبعض. إنها سردية امرأة تُقيم في كل الكائنات، وتحمل في كينونتها الألم والرجاء معًا.

تزخر القصيدة بصور تشخيصية وتجسيدية تنبض بالحياة والعاطفة، نذكر منها:

“تبكي الفأسُ إذ تسعى…”
إضفاء مشاعر إنسانية على الفأس يعكس مأساة الطبيعة المغدورة والقلوب المغلقة.

“أنا البئرُ التي غرقت بدمع عيون يوسفها…”
تناص عميق مع قصة يوسف، يجعل من البئر مكانًا للدمع، والستر، والخلاص، بدل أن يكون موضعًا للخيانة فقط.

“مكحلتي من التاريخ أملؤها، وإن فرغت، خلطتُ بصبري الكُحْلا”
صورة بديعة لامرأة تتزيّن لا بالزينة الزائفة، بل بذاكرة الأمة وصبرها.

لا تُقدّم الشاعرة المرأة بصورتها النمطية المسالمة فحسب، بل تقول في تمرّد واعٍ:

أنا السِّلمُ الذي خسروا / ونفس الحربِ إن طلبوا
أنا الاثنان إن شاؤوا / يمامًا كنتُ أو خيلا

بهذه الأبيات، تُعيد المرأة تعريف ذاتها بعيدًا عن ثنائية الضحية أو الراعية، لتُصبح فاعلًا حرًّا يختار ويصنع.

تنتهي القصيدة بهذه الرؤية الشاملة:

أنا الدنيا / أنا البعض الذي يمضي / أنا الكلّ الذي يأتي…
أنا إيزيس… مكحلتي من التاريخ أملؤها…

اللغة هنا مشبعة بإشراقات صوفية، تُحيل القارئ إلى رؤى “الكلّ في الجزء”، “والغياب الذي لا يُلغي الحضور”، فيصبح الكحلُ فعلًا وجوديًا، لا زينة أنثوية فقط.

قصيدة “إيزيس” ليست مجرّد نص شعري، بل هي بيانٌ وجوديّ لأنثى تعرف كيف تنبُت من رماد الحكاية، وكيف تمزج الجرحَ بالأمل، والغيابَ بالحضور.
إنها كتابة تستحق أن تُقرأ، وتُدرّس، وتُروى، لأنها تقول الكثير… في زمنٍ فقدَ فيه الكثيرون القدرة على الإصغاء لصوت الأنثى الحكيمة.

د. سمير إبراهيم زيّان

*أديب وناقد وباحث مستقل


أنا القمرُ الذي من ليلِهم كَلّا
ومدَّ ضياءَه أَمَلا
ليلقُفَ ما أضاعوه على الطرقاتِ
بين غمائمِ الظلماتِ
وبين السِّلمِ و الجولاتِ
وقتَ الحربِ
يسألُ شمسَه الوصلا
وما ملَّا


أنا الطفلُ الذي طعنوه في مهدٍ
وعاشَ شبابَه شيخا
وقامَ الكهلُ وقتَ الفجرِ يحملُ بعضَ أدعيةٍ
بها صلَّى
وهبَّ الشابُ في الوجدانِ ينشدُ لحنَ أغنيةٍ
وغناها ثلاثتُهم
وما جمعتْ لهم شملا !!!


أنا الأشجارُ في نَيْسانَ
يحملُ قلبُها الفُلّا
وتبكي الفأسُ إذ تسعى
أيادي البغضِ تحملُها
لتمشي في لُحاءِ الجذعِ تقطعُ كلَّ أنسجةٍ
و تقتلُ زهرَها ، الأغصانَ
و الظِّلا
وتنتفضُ الفؤوسُ على أيادِ البغضِ تقطعها
أنا السلمُ الذي خسروا
و نفسُ الحربِ إن طلبوا
أنا الإثنانِ إن شاؤوا
يمامًا كنتُ أو خيلا


أنا البئرُ التي غرقت
بدمعِ عيونِ يوسُفَها
و تشهدُ كلَّ خائنةٍ
و تشهدُ أن أخوَته بكوا شكلا
لتحميه الغياهبُ من ذئاب الليلِ
تحملُه بطونُ الصخرِ
في أحشائِها طِفلا
فعاد عزيزَ مربعِهم
وكلُّ الشكرِ أن ضلُّوا
و ما ضلّا


أنا الأيامُ مُذ جاءت بها الدنيا
أنا الماضي …أنا الآتي
أنا التاريخ ُ …شمسُ الكونِ ضوَّتْ لي
وفي الأسحارِ سرَّتْ لي :
“شروقُ المغربِ التالي لمن ينوي “
فأضحى لي
أتاني يقطعُ الظلماتِ مُنْسَلَّا

“””””””””

أنا القديسةُ الأوفى
أنا الدنيا
أنا البعض الذي يمضي
أنا الكلُّ الذي يأتي
إذا ما غاب بعضُ الكلِّ
صرتُ البعضَ و الكلّا
أنا إيزيسْ
أنا إيزيسُ
مكحلتي
من التاريخِ أملؤها
و إن فرغتْ
خلطتُ بصبريَ الكُحْلا
/ د. ريهان القمري /

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى