(أمنية عابرة) قصة قصيرة بقلم / أحمد رأفت

ها قد بلغ اليوم نهايته ، يوم آخر من العمل المضني، لملم أشياءه الضرورية، ووضعها في حقيبة كتفه ، ثم سار في الردهة المُفضية إلى طريق الخروج .. كان شريد الفكر ، منهك الإحساس حين استوقفته إحدى زميلاته ومعها امرأة أخرى لا يعرفها.. وطلبت منه أن يلتقط لهما صورة .. كان أمرا عارضا إلا أنه بدا لطيفا .. أخرجه من حالة الشرود التي سيطرت عليه.. كعادته في إتقان ما يقوم به ، أمسك الهاتف .. بدأ يحدد اتجاهات الضوء .. الوضعية المناسبة .. ثم التقط لهما أكثر من صورة .. نالت إعجابهما .. استأذنهما ومضى في طريقه..
عندما وصل إلى البوابة همَّ بإخراج كارت البصمة التي يسجل به موعد دخوله وخروجه من المكان إلا إنه لم يجده ، توقَّف قليلا يبحث في حقبيته، يقلَّب بين أشيائه عسى أن يهتدي إليه، لكن محاولاته في البحث باءت بالفشل .. جلس على الدرج يفكّر ماذا يفعل ؟! .. وعند جلوسه تدلَّى الكارت بشريطه الذي علَّقه في رقبته.. ابتسم في نفسه من حالة اللاتركيز التي أصابته في الآونة الأخيرة .. أثناء التقاطه لحقبيبته الممدة على الأرض اصطدم بها ..
للمرة الثانية في اليوم نفسه يصادف هذا الوجه المتألق .. نعم، إنها هي .. الطرف الآخر للصورة التي التقطها لزميلته منذ وهلة .. الآن يلقاها ثانية كأنهما على موعد .. كانت تتمتع بجمال جذاب .. فضَّ بكارة عينيه وكأنه يراها للمرة الأولى، ما أجمل أن يعمى الإنسان عن رؤية النساء جميعهنّ، ثم يعود له الإبصار مع نور ابتسامة تفتقت من ثغرٍ نضيد .. من أنتِ ؟ ومن أين أتيت ؟ .. ولماذا الآن؟ .. فيض من الأسئلة جعله يقف أمامها مشدوها متعجبا ومعجبا في آن واحد ..
حاول الخروج من هذا الموقف بقول شيء يقطع به حالة الصمت اللحظي الذي خيَّم عليهما :

  • هل الجمال شريطة هذه المؤسسة لتعيين أمثالكم من الموظفات؟
    كانت مجاملة عابرة حاول فيها أن يمدح هذا الألق الأنثوي الرقيق .. إلا إنها فاجأته بردّ أربك حساباته وجعل الكلام يأخذ منحى آخر: هل تغازلني ؟!
    تلعثم لسانه .. وذابت الكلمات على شفتيه فلم ينطق .. نظر إليها وهي تودعه بابتسامة انقشعت معها الغيوم وأشرقت معها الأمنيات .. وسريعا حملتها خطواتها الرشيقة الواثقة إلى حيث تسكن الشموس ..
    فوضى شعورية عارمة .. غرق فيها بقية يومه .. قضى ليلته كاملة يتلهف للقاء آخر عسى أن يحمل له ما كان يبحث عنه منذ زمن طويل ..
    وفي اليوم التالي بحث عنها .. عن تلك العيون التي تحمل له الدفء في برد الشتاء .. عن تلك البوصلة التي تهدي سفينته الحائرة إلى مرافئ الحلم .. لكنه لم يلقها .. إحساس يصعب وصفه .. عندما تتأرجح النفس بين اليأس والرجاء .. ظلَّ على هذه الحال أياما .. يجوب المكان بعينيه .. يفتش الوجوه .. وينفض الزوايا والأركان .. بحثا عن تلك الشقراء الساحرة .. وأخيرا .. عثر على حلمه الهارب .. أمنيته العابرة .. وعزم ألا يُفلت الفرصة من يديه .. تقدَّم إليه وسألها :
  • أين كنت؟ ..
  • قالت بابتسمتها المعهودة : تخلفت عن الحضور منذ يومين ..
    عرف من حديثها المقتضب .. أنها عازمة على الرحيل من المكان .. ,انها قدَّمت استقالتها بالفعل .. يا لحظه العاثر .. قالها في نفسه ..
  • ثم بادر بسؤالها : هل لي برقم هاتفك ؟ ..
  • قالت في دلال : لماذا ؟ ..
  • لأغازلك ..
    فاجأها بردّه .. فتقاسما ضحكة على شفتين .. ثم سار كلٌ منهما في طريقه ..
    نظر إليها حتى تلاشت أمامه كما يتلاشى دخان سيجارته .. كم تاق لعبور ذلك الجسر بين الوهم وسوء الفهم .. بين ما يريد وما يفرضه عليه الواقع العنيد ..عجبا لدروب الحياة قد تلتقي فيها بإنسان .. قضيت العمر تبحث عنه .. وتجمعك به نقطة ضوء .. ثمَّ سرعان ما تدرك أن الدروب متقاطعة .. وعلى كل منكما أن يمضي في طريقه المرسوم .. لقاءات أشبه بالومضات .. أرسل عينيه إلى اللاشيء .. أشعل سيجارة أخرى ثم مضى …
    تمت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى