أيام … قصة بقلم ربيع دهام

“ولكنك مخطئ يا عمرو”، سمع صوتها يصل أذنه من اللا مكان.
كاد يسقط فنجان القهوة من يمناه فيبلل الجريدة التي يحملها بيسراه. استدار باحثاً عن مصدر الصوت.
رآه يجلس على الكنبة أمامه.

  • إسعاف؟ مخطئ بماذا يا إسعاف. أنا لم أقل شيئاً بعد، يقول لها.
  • “مخطئ لأنك لم تقل”، تجيبه. ثم تكمل، “جالسة أمامك ولا سلام ولا من يحزنون. صباح الخير يا إساف. كيف حالتك يا إسعاف. ماذا تريدين اليوم يا إسعاف”.
  • اعتذر منك يا إسعاف. لم أتقصّد هذا. كل ما في الأمر أنني لم ألاحظ وجودك على الكنبة.
  • ومنذ متى كنت تلاحظ وجودي؟ لطالما كانت الجريدة حاجزاً بينك وبيني.
    يتأفّف. ينزع النظارات عن عينيه ويجيبها:
  • منذ أن تزوّجنا وأنا أتصفّح الجرائد صباحاً، فماذا تغيّر اليوم يا إسعاف؟
  • أرأيت؟ هنا المشكلة.
  • مشكلة؟ أية مشكلة؟
  • مشكلة أنّ لا شيء يتغيّر. روتين. كله روتين. روتين ممل، روتين قاتل. روتين مجرم. فاليوم مثل الأمس، وغداً مثل اليوم، وبعد الغد مثل الغد.
    يركن الجريدة والنظارات جانباً، يجعل ظهره مستقيماً، ويسألها:
  • إسعاف؟ ماذا تريدين مني بالضبط؟
    يزداد غضبها:
  • عشرون سنة مرّت وما زلتَ لا تعرف ماذا أريد؟
    يكاد صبره ينفذ.
  • نعم لا أعرف. والله لا أعرف. قولي لي. ماذا تريدين؟
  • أريدك ألا … أريدك ألا تحرجني أمام أهلك ثانيةً.
  • متى أحرجتكِ أنا أمام أهلي يا إسعاف؟ متى أخبريني؟
  • ونسيتَ أيضاً؟ أو أنّك تدّعي النسيان؟
  • نسيت. أجل نسيت. متى؟
  • أنسيت يوم ذهبنا لقضاء عيد الأضحى عندهم في الضيعة هناك؟
  • أيّ عيد أضحى؟ السنة الماضية؟
  • لا
  • منذ أربع سنوات يوم تخرّج أخي الأصغر؟
  • لا
  • منذ ثلاث سنوات يوم تخرّج أخي الأوسط؟
  • لا
  • إذن منذ متى؟
  • يوم تخرّجك أنت، قبل إعلان خطوبتنا بأسبوع.
  • لكن هذا كان في الماضي البعيد. في الماضي البعيد جداً يا إسعاف!
  • نعم. عشرون سنة.
  • وتذكرين أشياء حصلت منذ عشرين سنة؟
  • أنا؟ أنا لا أتذكّرها. أتعرف لماذا؟ لأنني لا أنساها. أنا فقط أذكّرك أنت!
    ارتفع ضغطه. تسارعت نبضات قلبه. عاد ورفع الجريدة جاعلاً منها حاجزاً بينه وبينها، وشرع يقرأ من دون نظّارات.
    قرأ لدقيقةٍ.
    لم تقل شيئاً.
    قرأ لدقيقة أخرى.
    أيضاً لم تقل شيئاً.
    استل نظارته وارتداها.
    قرأ لدقيقة جديدة.
    الصمتُ يخيّم على المكان.
    تحرّك قليلاً. هزّ الجريدة. تنحنح. لفَّ رجلاً على رِجل.
    لا صوت منها ولا همسة. حتى صوت أنفاسها لم يكن ليصل منه شيء.
    أنزلَ الجريدة وصبّ نظراته على الكنبة حيث تجلس.
    رأى الكنبة فارغة. باهتة. لا دفء فيها ولا حياة.
    أشعة الشمس المنسكبة عبر النافذة قد أضفت على الكنبة هالة ملائكية.
    ومرّت دقيقة،
    ومرّت بعدها نصف ساعة، ثم ساعة، وبقي عمرو هكذا، يراقب الكنبة بصمتٍ مريب.
    ينظر الى حيث كانت تجلس وفي رحم مقلته اليمنى جنين دمعة يتلألأ.
    أين…أين هاتيك الأيام؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى