نصف شمعة …قصة قصيرة بقلم نجوي عبد الجواد

تنزل الأكياس بقدر ماتريح يديها وتعود لتحكم إمساكهم مرة أخرى، في طريقها إلى البيت اشترت ما تحتاجه للزيارة، هو طريقها الذى تسلكه منذ سكنت هذا الشارع، تعبره جيئة وذهابا من عملها للبيت، أو من السوق للبيت، كما تفعل اليوم. تحب الدفء الذى يشع منه، سلامات من الجارات ومن اللاتي يقمن بالنظافة في الأبراج المجاورة، ومن صاحبة البوتيك وصاحب المكتبة… أين ذهب هذا الدفء؟! قل الوقوف والسؤال على الأولاد وحلت محله الإيماءة، انعدم السؤال عن الأستاذ بعد أن كانوا يلهثون بمدحه وحرصه على مصلحة الشارع كله، لم تقلها ألسنتهم، قرأتها في أعينهم، يبعدون على غير رغبتهم .!
ابتسامة حزينة، تضع الأكياس على الأرض، تستريح في ظل الشجرة الكبيرة، تذكرها بشجرتهم وكيف هجرتها العصافير. انشغلت عنكم بهمومي ، ولم يضع لكم أحد الحبوب على سور البلكونة كما كان يفعل، تعود للإمساك، هذه المرة بالأكياس وبطرف ثوبها، يبدو الضيق على وجهها وهي تعبر هذه البركة إلى بيتها، بيوت الجيران لفظت مخلفاتها لتحملها المياة المتسخة مكونة هذا العائق ، تسخر منه؛ كان يقول :الشارع ملكنا ونظافته من نظافتنا، يبدو أنه انفرد دون غيره من السكان بهذا الشعور. تعبر بأكياسها بسلام، تدير المفتاح ، تفاجئها القطة منطلقة للخارج، ترتعد خوفا من قفزتها، صارت تخاف من كل شيء، سكن قلبها هيهات أن يغادر. ارتمت على الأريكة تنشد الراحة، فتحت حقيبتها وأحصت ماتبقى، تحدِّث نفسها :نسير بستر الله. انضمت نعمة لأمها في المطبخ، تأخر الوقت ولمَّا تنتهيا بعد، تنظر صفاء إلى الساعة، الزمن يجري، مر من العمر أعوام، كانت نعمة صغيرة والآن صارت أطول منها، تعاود النظر للساعة تلقائيا، ماذا تحمل لنا أيها المستقبل؟هكذا تتطلع لما هو قادم بأمل تارة وقلق أخرى. يغطي آذان الفجر على صوت أقدامهم التى تشق السكون، يتغلبون على خوفهم بترديد الآذان خلف المؤذن،
تحمل صفاء حقيبة بها بعض الملابس ونعمة تمسك بكل قوتها بحقيبة وضع فيها الطعام أما الصغير وليد فيمسك بحرص علبة من الورق تنبئ عن “تورتة كبيرة” المسافة بين مكان وقوف السيارات والبوابة ثلاثة أضعاف تلك التي قطعوها من منزلهم للسيارة التى ستقلهم. لا بأس، تقولها صفاء بابتسامة مشجعة لنعمة ووليد. يخترقون بصعوبة، زحام كبير، متى جاء كل هؤلاء؟ يلتزمون الطابور، الشمس ساخنة منذ الصباح، تشتد وتشتد مع آذان الظهر، تأفف من وليد، تشير الأم إلى بقعة نسيتها الشمس ليقف فيها، يتساقط العرق من ظهر نعمة ومن وجه صفاء، هانت، تقول نعمة، اقترب دورنا سينادون علينا.
أكره القادم يا أمي.
ترد صفاء :الصبر يا بنية.
بقلة حيلة تقول نعمة :وهل نملك غيره يا أمي؟!
تربت على كتفها ويتقدمان بعد سماع النداء. تعترض صفاء :كفى امتهانا لأجسادنا!.
نظرات حادة وصوت آمر :من لا يعجبه لايأت، ولو تعصبت لجعلتك تعودين بدون تحقيق هدفك.
تسحب نعمة أمها من ذراعها وسط سيل من الاعتذارات وتخرجان، اهدئي أمي، ماذا حدث؟، ما الجديد؟
تعبت يا نعمة، تعبت.
لا تجد نعمة ما تجيب به إلا الصمت. ينضم إليهما وليد، الطرقة طويلة وضيقة في نهايتها حجرة، كومة الملابس تعود إلى حقيبة صفاء ،مغرفة كبيرة تتحرك في إناء الطعام،تتبعثر صينية المكرونة،تنظر صفاء ولا تعلق الدور على علبة التورتة ، تعبت في صنعها، خرجت بهذا الجمال ولم تفلح الحرارة في إفسادها، دعها وشأنها، ابتسامة ساخرة تتساقط لتزيد من النار المستعرة بداخلها، عيد ميلاد المحروس أليس كذلك؟!
لاتعلق، فقط تتابع بعينين من عالم آخر أصابعه وهي تغوص فيها، والشمعة التى تحمل الحرف الأول من اسمه وقد انكسرت، تنتبه على صوته وهو يقول طعمها جميل فعلا!
إلى قاعة كبيرة تشبه السوق في الريف، عيونهم الذابلة تبحث عنه وعيونه المشتاقة تلتقطهم، المساحة التي نالوها هي صدره الذى احتصنهم، وحيث أشار زميله له اتجهوا، أفصحت العيون عما يدور في الصدور، مد وليد يده بالعلبة، أمسك بها مبتسما :مازلتم تذكرون؟، أخفي غضبه من المنظر، التقط الشمعة المكسورة واستعار سيجارة زميلة، غرس الشمعة في قطعة لم يطلها التشوه وبدأ يغني لنفسه :سنة حلوة يا جميل، سنة حلوة يا جميل، الصوت صار أربعة، ستة، زاد العدد، تحلق جمع كبير حول نصف الشمعة المضاءة، شجعت نظراته الأصابع لتمتد والأفواه لتتذوق وسط ضحكات خجلي، لم ترها صفاء مقززة هذه المرة، مازالت الشمعة تبعث ضوءا خافتا، أجمعوا دون اتفاق على الإبقاء عليها، الوقت انتهى، يتلكأون، يدفعونهم للخارج، تتحاشي النظر، تخشي سحابة الشمعة السوداء، تمسك بيد ولديها، تقول لنعمة، ذكريني أن أضع حبوبا على السور من يدري ربما تعود الطيور.


اقرأ باقي العدد ١٤

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى