من الروايات المرشحة لقائمة البوكر : “وادي الفراشات” …. رواية تبدل انعكاسها – النقد رؤية محلقة لكنانة عيسى

في هذا العمل الأدبي الواقعي الخاص يقدم لنا الكاتب المتألق أزهر جرجيس ملحمة تراجيدية باذخة مهجنة بين الرمز وفجاجة الحاضر ، إنها ملحمة تجمع نكبات الماضي وقهره واستقراء مستقبل ينبثق من العمق الآني للواقع العربي الصرف، مبتعدا عن ثقافة المطابقة مع نمط المعاناة الإنسانية العامة، إنها سردية موجعة تخص الإنسان العربي وحده،ابن العراق الخصب ، الإنسان العربي المقهور وحده، الواقع في شرك الانتماء الذي لا خلاص منه، الباحث عن الحقيقة في أوطان محكومة بالخيبات والحروب و انعدام الفرص رغم ثرائها وعظمة مواردها. متعثرًا بالحياة غير قادر على عيشها ،مصطدمًا بطبقية مجتمعه منبوذا فيه، مساجلًا الحلم عاجزًا عن لمسه، ملتصقًا بسوء الحظ متخبطًا في براثنه، هاربًا من الجحيم التاريخي العربي للفقر والعجز وانعدام الفرص و الفشل الى جحيم التشظي و الانفصال عن الواقع نحو التقوقع الذاتي ولا سيما إن كان البطل مثقفًا كبيرًا لا يملك إلا عزلة المنافي في قلب الوطن الذي تعود إجهاض الأحلام وسيطر على أبنائه ضمن مفاهيم الإذعان و الولاء و التبعية العمياء ولغة المواطنة العاجزة حين تغدو جنة القارئين لعنة مستدامة.
لكن هذه الملحمة تستبدل ظاهرها بباطن أكثر عمقَا للموضوعة الأصلية حين تأخذ منعطفًا صوفيًا فلسفيًا أصيلًا نقيًا تسلب الفراشات فيه بطولة السرد وعمقه بلغة سلسلة عذبة لا تخلو من شعرية خفية تذوي في الوجدان حين نتعاطف رغما عنا مع سارد متكلم احتكر الحقيقة كلها وغرّر بمجتمع التلقي نحو عالم من الرموز المقدسة لعالم الأرواح .

تخاطب الرواية مجتمع التلقي كسردٍ واقعيِّ لا يخلو من الكوميديا السوداء التي أثثها الكاتب كمقوم أصيل في ملامح شخصية السارد، كمثال على قدرته على الصمود في وجه كوارث الحياة وقسوتها،إنها انعكاس لأيديولوجية التفاوت المجتمعي الذي اختُزل إلى الدونية و الحضيض في صراعات طبقية تحكمها نخبة السلطة،إنه إحساس دائم بالمديونية الأخلاقية والنفسية أمام فساد لا نهاية له، إلى أن يفضي (لعزيز عواد رمز الإنسان العربي) إلى مزيد من اليأس و الخذلان وإفراغ أصالة المجتمع من قيمه ومضامينه، فهو سيفقد وظيفته في الأرشيف بسبب علاقة عاطفية تجمع رئيسه قي العمل مع امرأة تهكم على تمزق ثوبها العرضي بحسن نية،وسيفقد زوجته بسبب كبرياء فارغ لا يوائم لغة الفقرالخافتة، و سيضيع ابنه بسبب ظروف البيت الفقير المقدع، و سيسيىء لحريته مرات عدة مع مهند في مغامرات البحث عن فرصة الحياة.
تبدل الرواية انعكاسها الواقعي كمنفذ لعودة عزيز إلى ما يشبه حلم التشبث بالحياة،الحياة التي لا تليق لبطل تراجيدي،إنها حياة المقابر المسالمة، و ما اصطدام البطل بالنقاش إلا انعتاق روحي فلسفي يضمن الرغبة في الحلم، إنه إشراق ينقل البطل من التغريب إلى علاقة واعية بالروح والتمرس بها للاشتباك مع عالم الأرواح البريئة وللغرق فيه، فيغدو أسير دهشة هذا العالم البديل النقي،عالم الضحايا الناصع، الذي ينتمي له البطل أخيرًا ويلعب دور المنقذ النبيل فيه، عالم شفيف ملتبس يشظي ملمح الموضوعة الواقعي العام إلى مقاربة صوفية تخيلية تستبدل الفناء والانتماء والغياب بالملاذ البرزخي الرمزي.وما نجاة المواطن العربي في ظروف موته المسمى حياة إلا بالهروب نحوعالم روحي لا تغريب ولا قهر ولا حزن فيه.

عزيز عواد وجلجامش هما بطلان ملحميان تشاركا أرضًا عظيمة وخصبة وراسخة ابتكرت الحضارة ثم خلدتها، مشبعان بالأحلام وبقيم روحية مضادة للواقع وبثورية ناشئة ساذجة لا تفكر بالعواقب رغم هتمش المتخيل و الواقع، و إن كان جلجامش قد وعى مشقة العودة من الموت والبحث عن الأبد و البقاء على قيد العقل محبة انكيدو في النهاية، فإنّ عزيز عواد انتهج الشك و الانتقاص كحضور أزلي لموقفه من الحياة،لا احتجاب ولا مواربة في استسلامه لفشل أخير محى هوية وجوده، لتكون لحظة لقائه ب(النقاش) لحظة خلاص روحه من حلم لا يفصَّل لأمثاله، و ما إدمانه الكحولي و فقدانه ابنه سامر و زوجته تمارا التي انفضّت عنه بسبب لامسؤوليته و فقره وأخطائه، إلّا كاحل آخيل الذي لن يلتئم حتى في سجنه الطويل.

طرح الكاتب رؤية متجددة و حسية للمجتمع العراقي لا تتكىء على مرجعية دينية أو ثقافية واضحة، إنّها استدامة نابعة من وجدان السارد و آلامه و أحزانه و أفراحه تتخللها معاينة شخصية قائمة على التجربة المباشرة ونرى ذلك في الصباحات التي كان يقدم فيها له خاله خلدون أطعمة السعادة المرتبطة بطقسية العيد مثل( القيمر و الكاهي) و ذكريات شاي إبريق الخزف الذي ارتبط بطفولة عزيز مع أغنية أمه (خدري الجاي خدري)، الشذرات الموسيقية التي ترتبط بذهان البطل وقهره كأغاني ناظم الغزالي،و ذكر الياس خضر، و الحواريات باللهجة الدارجة،التوثيق الجغرافي للأماكن، كل ذلك ينضوي تحت مشاعر عزيز المغترب في وطنه.

تنتصر الرمزية على أدب الواقع في (وادي الفراشات)‘تتشابك المعدلات الموضوعية في السرد مثل عالم الأرواح رمز النقاء والخلاص الباذخ الثمن، (النقّاش) رمز المخلّص النبيل،و( وادي الفراشات) رمز الملاذ الروحي البرزخي من مجتمعات اليأس والقهر، و تتمازج هذه الرموز مع الملامح النفسية والتكوينية لشخصيات المتن، فتذوب في الأنماط الإنسانية المألوفة، فلا هوّة بين القارىء الضمني الذي يكتب له الكاتب، وبين القارىء الفعلي الذي يقرأ العمل الأدبي، فلا أفق توقعات لا يطابق الحقيقة، فشخصية (جبران) هي الشخصية العراقية المثقفة الوارفة و المنقذة الثرة و المتصالحة مع أخطاء عزيز بتعاليها الأخلاقي و كرمها اللامحدود وترفعها عن الماديات الصرفة، و شخصية (تمارا) هي الحبيبة اللصيقة لذات البطل المتغيرة بتغيره والتي ستنتصر أمومتها المخذولة العصّية على حبها الذي سيتلاشى رويدًا رويدًا بسبب معاناة الفقر و الحرمان و القهر، و شخصية (صبيح) الانتهازية النرجسية التي ستتماهى مع التغريب وقسوته حتى في ظروف مرض الأم المهملة وتفكك الروابط الأسرية التي ستعزز وحدة عزيز اللانهائية، وشخصية (مهند) الذي ستنقلب من شخصية منفتحة حالمة مستهترة إلى تطرف قائم على استثمار الفكر الديني الذي هدفه المصلحة والانتهاز والأنانية المفرطة و التسويق لمرجعيات دينية جدلية خاصة.
تتحول المرويات المجتمعية العاطفية والبطولية والعقلية إلى أدب واقعي ساخر و رمزي وعميق، يحنّط الوجدان الإنساني و يوثّق الحدث تاريخيًا وسياسيًا وإنسانيًا باستئثار الذاكرة الحسية الموازية للفكاهة، فيغدو ساكن( عالم الفراشات) حاملًا معاصرًا للتعايش المرحلي للمجتمع العراقي بتوهجه و انكساره و تذوق ملامحه و خصائص آثاره اللغوية و المجتمعية. ويطلق الكاتب أدبًا اعتباريًا و معياريًا واستباقيًا لأنَّه مزج الحزن و الابتسامة في إطار يصعب فصلهما، و أعاد كتابة الحدث بروح إنسانية حقيقية تسلب العاطفة، تتفق على تلقيها ذائقة الضمير الثقافي العام و نخبوية التأويل الوجداني الجمالي و ذائقة العوام أيضًا . فسيغدو عزيز عواد موظف الأرشيف المهزوم، مرةً نزيل السجون الدائم،ومرة أخرى الزوج الفاشل وأما السكير الساذج فسيظنُّ به أنَّه أستاذ لغة عربية لأنه يبدو محترمًا في هيئته في الملهى الليلي.ينما يضللنا السرد نحو حكاية خريج جامعي مثقف يغدو سائق التكسي السيء الحظ ومن ثمة سيد وادي الفراشات النبيل.

لم يكابد أزهر جرجيس عناء زج بناء فني خاص جاذب للسرد و لم يتقصّد كتابة غرضية خاصة لتضفي بصمة أسلوبية معلبة، بل اختار أن يوثّق أدب المرحلة الراهنة بتبصرٍو ثقةِ و تمكّنِ وحس فكاهي لا مثيل له، حين تتدفق اللغة الرصينة الممتعة بلا تكلف، مبتعدًا عن رتابة الإطار الكلاسيكي العام ومؤثثًا لأسلوب فني واضح الملامح،ماتع ومشوق لكنه ثريّ متجدد يطرح البعد التاريخي للظاهرة التي تحكم مجتمعًا يحتضر.أسلبة رشيقة سلسة ،توائم كل قارىء على اختلاف أيديولوجيته وذائقته فلا صنعة ولا مكابدة ولا تراكم لغوي انتقائي شاق، بل تدفق حكائي رشيق وشيق يربط مجتمع التلقي بالمتن بدون تكلف ولا تصنع بل ببراعة تلقائية خالصة تستمد الفكاهة الحقيقية من قلب المأساة ،إنها الكوميديا السوداء التي تنقل لنا حكاية حلم زوجة اللباخ الذي أودى به للسجن، والحوارية الساخرة بين عزيز و بين الخال خلدون قبيل تشميع المكتبة. اللغة الحسية التي رصدت مظهرالفنان حسام الأصيل في الملهى الليلي وكل تفاصيله من وصف دقيق للراقصات والزبائن وونساء الليل وطبيعة الحوار و مضامينه، لتتغير سمات اللغة حين يحدث الانعكاس الصوفي، قيتسرب الواقعي الكوميدي من المشهد ويعلو الروحي العذب النقي وتتغير طبيعة الألفاظـ، كلغة الشواهد الي خلدها كتاب الأرواح والتي سيكتبها عزيز بقصائد شعرية رقيقة و مؤثرة وخلابة.

سيمكث عزيز عواد في خلاص روحي عميق في هذا المتن المائزالذي جدّد فيه الكاتب مفهومًا صوفيًا يتجاوز اليأس و التيئيس، نحو قطيعة مطلقة مع المجتمع الأكبر، ليمزج هموم ذاته مع عالم الأرواح المحلقة فيتأرجح في فضاءِ غير واثقٍ بين الممكن والمعقول، بين الحدث و افتراض عدم تحققه، بين الهامشي الحالم و بين الموغل في الواقع و الذي يغلي في تصور الآخر ووجدانه ،حين يبتكر الكاتب سردية روائية تتسق ومفاهيم منظور فلسفي تغريبي تنتصر فيه الرمزية الشفيفة على مرارة الواقع. وقهره.
لن ُينسى عزيز عواد و لا وادي فراشاته ،فأزهر جرجيس ابتكر شخصية غير اعتيادية لا يمكن نسيان تفاصيلها ولا ملحمتها ولا مواقف حياتها الكوميدية الساخرة ولا جروحها القاهرة،إنها رحلة الوعي في العقل الباطن لتفاصيل حكائية روائية لن يموت أبطالها في وعي التلقي وذاكرته.عمل مذهل في كل مقاييسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى