” كرامة أبي ” …قصة قصيرة بقلم / أحمد رأفت


” كرامة أبي ” …قصة قصيرة بقلم / أحمد رأفت

انتبه من نومه على صوت أمه الحاني يداعب أذنيه، ويستحثه على الاستيقاظ ، نظر في الساعة المعلقة على الحائط .. مازال الوقت مبكرا على أن يفارق سريره، خاصة أنه يوم عطلته الأسبوعية من عمله.
أغلق عينيه من جديد .. شدَّ الغطاء على وجهه متظاهرا بالنوم، لكن أمه حالت بينه وبين هذه التمثيلية حين وقفت عند رأسه تناديه :
- قم يا بنيَّ، فأبوك في عجلة من أمره
نفض الغطاء عن وجهه في غضب وقال لها : - إنه يوم راحتي، ولن أذهب إلى العمل اليوم
- لكن أباك يحتاجك معه اليوم وهو ينتظرك الآن ..
قالت أمه في رفق ، فقلبُها يميل إليه ويدعم رغبته في الراحة، لكن حاجة أبيه إليه ماسَّة ..
قام من سريره مغاضبا وتجنَّب أن يرى أبوه الامتعاض مرسوما على وجهه.. وفي ثوانٍ معدودة كان جاهزا للانطلاق بصحبة أبيه.
شرد ذهنه في أثناء الطريق، وساعد الصمت الذي خيَّم عليهما على تدفق سيل من الأسئلة على رأسه التي لا يزال يخامرها النوم .. - ما الحاجة الملّحة التي تدفع والده إلى اصطحابه للعمل في يوم أجازته ؟!
- لماذا لم يبح له برغبته في عدم الذهاب معه اليوم .. خاصة أنه قد واعد أصحابه للخروج معهم اليوم؟! ..
- ما سر هذه الرهبة التي دائما تحول بينه وبين أبيه ؟
هو لا يجرؤ أن يوجه أيا من هذه الأسئلة إليه ..لا يدري .. أخوفا منه أم احتراما له ؟!
كل ما كان يعلمه يقينا أنه يحمل لهذا الأب المجبول على الشقاء حبا خفيا ليس بمقدوره التعبير عنه ولا التصريح به
يذكر يوم أن كان في السابعة من عمره عندما طلب من أبيه أن يصطحبه معه إلى العمل، فرفض بحجة أنه مازال صغيرا .. فألح عليه في مرار وتكرارا حتى وافق على مضض .. فلبس أجمل الثياب وانطلق يملأ قلبه سعادة غامرة.. فهو بصحبة أبيه الحبيب.. وفي أثناء تواجده في موقع العمل غافل الجميع ووضع يده في دلو به طلاء الحوائط وبدأ يمسح على ملابسه حتى صارت كملابس أبيه ملطخة بالدهان وعندما رأى أبوه ملابسه المتسخة ضربه بشدة وقال له : لماذا فعلت هذا بملابسك ؟ .. فرد عليه في براءة : لكي أكون مثلك.
هكذا كان ينظر إلى أبيه منذ نعومة أظفاره .. رجلا قويا ، استمد قوته من طبيعة عمله الحر كمقاول تشطيبات .. يتمتع بسُمعة طيبة بين أقرانه من ذوي المهنة .. يقدره الجميع ويرون أنه نموذج لا يتكرر في صنعته .. لم يكن من ذوي الشهادات التعليمية فحظه من التعليم كان ضئيلا ، لكن الحياة منحته الدكتوراة في صنعته، شهد بذلك كل زبائنه الذين خبروا قدرته على إنجاز الأعمال وتركيب الألوان وعمل الديكورات كأفضل المهندسين المتخصصين ورغم ذلك لم تكن أحواله المادية في أحسن حال .. لذا كانت الحكمة تقتضي منه أن يعي فلسفة الطرق على أبواب الرزق..
لا يذكر أن رآه يوما كغيره من الآباء له عطلة أسبوعية يتمتع فيها بالراحة والاسترخاء .. فهو دائما يسعى على لقمة العيش.. فطبيعة عمله الحر قاسية، لا ترحم من يتكاسل.. فإذا ركن صاحبها إلى الكسل لن يجد ما يسد به رمقه ولا احتياجات ذويه .
انتبه من شروده وقد وصلا إلى الحي السابع أقصى مدينة نصر .. حيث تقع العمارة التي يتولى والده تشطيبها منذ عدة أشهر.. عمارة تتكون من خمسة طوابق تم الانتهاء من العمل فيها وكان يفترض تسليمها منذ أسبوعين لولا بعض الإضافات الجائرة التي طالب به الزبون .. ولن يحصل أبوه على بقية مستحاقاته المادية إلا بعد تنفيذها.. لذا اصطحبه أبوه معه اليوم لتنفيذ هذا التشطيبات، في حين نزل هو لمقابلة صاحب العمارة الذي يقطن الطابق الأول من العمارة لتصفية الحساب المتبقي لهم…
لم يكن يدري أن الأمر سيستغرق اليوم كله .. فالمهام البسيطة أحيانا تحتاج وقتا طويلا لتنفيذها بدقة .. كان مستغرقا في عمله حينما ترامى إلى مسامعه صوت أبيه وهو يتناقش مع صاحب العمارة ، شاب متعجرف زاده الغنى كبرا وغرورا، طالب والده بأعمال زائدة في التشطيبات لم يكن متفقا عليها من قبل.. وصرح أنه لن يعطيه قرشا من حقه المتبقي إلا بعد أن ينفذ ما طلب .. احتدَّ النقاش بين الطرفين.. تعالت وتيرة الصوت بشكل جعله يترك ما في يديه ويسرع ليدعم أباه .. هاله أن يرى الشاب المتعجرف صاحب العمارة يسب أباه ويدفعه بكلتا يديه في صدره .. فانتفخت أوداجه وثارت ثورته واستحال إلى أسد هائج ينقضُّ على فريسته ليفتك بها ، ساعده في ذلك القوة التي كان يتمتع بها .. وأثناء إمساكه بتلابيب الزبون فوجئ بصفعة مدوية تنزل على وجهه .. تُسكِن دوائر الصخب التي عجَّ بها المكان .. نظر مذهولا إلى صاحب اليد التي صفعته ..فوجده أباه .. تبع هذا أمر أبوي صارم أن يذهب حيثما كان .. ولا يتدخل في المشكلة ..
سكن كل شيء فيه سكون الموت .. كان يتحرك كالزومبي جسدا بلا روح .. لم يسمع شيئا من الحديث الدائر بين الطرفين .. كانت الصفعة التي تلقاها على وجهه كفيلة بحل المشكلة التي سببها صاحب العمارة .. أما هو فقد أنجز ما طُلِب منه أكمل وجه.. حان وقت الذهاب .. فخرج إلى أبيه متلفحا بصمت ممزوج بغضب مكتوم .. بمجرد ركوبه السيارة .. ربت أبوه على كتفه وطبع على جبينه قبلة حانية تحمل في طياتها اعتذار واجب..
هنالك انفجر باكيا .. يسأل أباه تفسير ما حدث .. كيف له أن يصفعه وهو الثائر من أجل كرامة أبيه؟ .. كان الأولى بهذه الصفعة أن تنزل على وجه هذا الجرو الذي تجرأ عليه؟! - ردَّ الأب في هدوء : إذا كنا حسمنا المشكلة بطريقتك .. فلن ننال قرشا من حقنا ..
- وكرامتك يا أبي .. أين كرامتك ؟ كيف تسمح أن ينال منها هذا الوغد الحقير ؟!
ارتسمت على وجه الأب ابتسامة الحكيم وقال :
وأين كرامتي حينما تسألني أمك عن مصروفات البيت لكي تُعدّ لكم الطعام ؟!
أين كرامتي حين يطلب مني أخوتك مصروفات المدرسة أو الجامعة ؟!
أين كرامتي حين تحتاج أنت شيئا فأعجز عن تلبيته ؟!..
يا بني .. إن الأب كثيرا ما يتنازل عن كرامته لكي تكون لكم أنتم كرامة في الحياة.
تمت