قصة قصيرة: شغف Une passionللأديب الفرنسي الراحل جى دى موباسان Guy de Maupassantترجمة: عاشور زكي وهبة



كان البحر مُتلألئًا هادئًا تكاد تهتزُ أمواجه بفعل المدّ والجزر، وعلى رصيف المرفأ تتطلّع مدينة الهافر بأسرها إلى السفن الداخلة فيه.
ويُرَى من بعيد العديد منها، بعضها بواخر كبيرة تزدان بدخّان كثيف، والأخرى مراكب شراعية تجذبها سفن الجرّ تبدو غير مرئية ناصبةً صواريها العارية كأشجار منزوعة اللحاء، تهرع من كلّ جهات الأفق نحو الثغر الضيق للرصيف الذي كان يفترس تلك المسوخ فتئنُ صارخةً، وتصفرُ زافرةً نفثات من الدخّان كالأنفاس اللاهثة.
كان ضابطانِ في أوج الشباب يجولانِ على الرصيف الحاجز المُغطّى بالبشر، يحيّيانِ ويتلقيان التحايا، ويتوقفانِ أحيانًا للدردشة.
فجأةً قام أكبرُهما «پول دينرسل» بالضغط على ذراع زميله «چان رينولدي» مُنبّهًا قائلًا بصوتٍ خفيض:
ـ عجبًا! ها هي مدام «پوانسو»، انظر جيّدًا! أقسمُ لكَ بأنّها تتطلّعُ إليكَ بعينِ الغرام!

كانت تتأبطُ ذراع زوجها مالك السفن الثريّ، وهي سيدة في حوالى الأربعين من العمر؛ وما زالت فائقة الجمال مع امتلاءٍ ضئيل زادَ من نضارتها،فبدت كشابّة لم تتجاوز العشرين ربيعًا.
حتّى أن أصدقاءها يدعونها بالغانيّة المعبودة بفضل مظهرها المُختال وعينيها الواسعتين السوداوين، وشخصيتها فائقة النبل.
وقد ظلّت بلا شائبة، ولا لوم عليها، ولا ذرة شكّ تخدش مسيرة حياتها، بحيث كانت مضرب المثل في الشرف والطهارة والوقار البالغ، فلم يجرؤْ رجلٌ أن يحلم بها.
وها هو ذا پول دينرسل يؤكد لصديقه رينولدي بأنّ مدام پوانسو تتطلّعُ إليه بمحبّة، ويصرُّ على ذلك مُردفًا:
ـ ثِقْ بأنني لستُ مُخطئًا، وأرى ذلك جليًّا. إنّها تُحبُّكَ؛ بل تحبُّكَ بشغفٍ كامرأةٍ حصناء لم تحبّْ من قبل أحدًا.
إنّ سنَّ الأربعين هو العمر الرهيب للسيدات العفيفات حينما يمتلكنَ مشاعرَ مُرهفةً يصبحنَ مجنوناتٍ، ويتصرفنَ بحماقة.
وهذه السيدة ـ يا عزيزي ـ مُصابةٌ كعصفور جريح يسقط، ولسوف تسقطُ في أحضانك… يا للعجب! انظر!
أقبلت السيدة الجليلة تسبق ابنتيها اللتينِ كانتا في عمر الثانية عشر والخامسة عشر، وقد شحب وجهها فجأة حينما لمحت الضابط، وتطلّعت إليه مُحدِّقةً بشوق، دون مبالاة بأي شيء حولها، ولا ابنتيها ولا زوجها.
ردّت تحية الشابينِ دون أن تُخفضَ بصرها المُتّقد بتدلهٍ لا مراء فيه بحيث ولجَ أخيرًا في روح الملازم أول رينولدي.
همسَ له صديقه:
ـ كنتُ مُتأكّدًا، هل رأيتَ هذه المرّة؟ عجبًا! يا لها من امراةٍ جميلة نفيسة!

لكنّ چان رينولدي لم يكن يرغبُ مطلقًا في أية مغامرات غرامية مدنية؛ إذ أنه شخص زاهد في البحث عن العشق والغرام. وقد كان يأملُ قبل كل شيء في حياة هادئة، ويكتفي بعلاقات المناسبات التي تُصادف أي شابّ دومًا.
كما كانت تضايقه كل التوابع العاطفية كالتفاتات الرعاية والحنان التي تحتاجها امراة ذات خلق كريم، وكانت العلاقة بالغة الخفّة المعقودة بواسطة مغامرة من هذا النوع تصيبه بالخوف.
لذا فقد كان يقول:
ـ بعد شهر واحد يكون لدىّ الكثير مما يفوق الاحتمال، وأضطرُ للتجلّد لستة أشهر لأجل اللياقة والمجاملة. ثمّ تسخطها القطيعة بمشاحنات وتلميحات وتشبثات السيدة المهجورة.
لأجل ذلك تجنّب ملاقاة أو مصادفة مدام پوانسو. لكنّه ذات مساء ألفى نفسه على العشاء بالقرب من مائدتها، بحيث كانت نظرتها المحتدمة تخترق جلده وعينيه حتى ولجت روحه دون انقطاع، وتلاقت أيديهما بعفويّةٍ، ثمّ تشابكت، ومن هنا كانت بداية العلاقة.
يعود لرؤيتها رغمًا عنه دومًا، وحينما أحسّ بنفسه محبوبًا، ترفّقَ واستحوذ عليه نوعٌ من الشفقة المزهوة لأجل هذا الشغف العنيف لهذه المرأة. لهذا استسلم لرغبة العشق، وبدا لطيفًا بسيطًا آملًا بحقّ أن يخلد في هذا الهوى.
لكنها أعطته ذات يوم موعدًا غراميًّا ليتلاقيانِ ويتحدثانِ بحُرّيةٍ ـ حسب قولها ـ بحيث هوتْ بين ذراعيهِ مغشيًّا عليها، وبهذا ألفى نفسه مُجبرًا أن يضحى عشيقها.
واستمرّ هذا الوضع ستة شهور، أحبته حبًّا جامحًا؛ ولأنها كانت أسيرة هذا الشغف المُتعصّب، لم تعدْ تبالي بشيء، ومنحته كل شيء: جسدها وروحها وسمعتها ومقامها وسعادتها، وألقت قلبها في هذا الأتون كمن يلقي كلّ الممتلكات الثمينة قربانًا في محرقة.
أمّا هو فقد نال منها ما يكفيه منذ مدّة طويلة، بحيث كان يتحسّر بشدّة على غزواته الهينة كضابط وسيم؛ لكنه كان موثوقًا ومأسورًا، ويحيا كالسجناء.
وتقول له دومًا:
ـ ها قد منحتكَ كلّ شيء، فماذا تريد زيادة على ذلك؟!
وتملكته رغبة في أن يجيبها:
ـ لكنني لم أطلب منكِ شيئًا، أتوسلُ إليكِ أن تستعيدي كلّ ما منحتيه إياىَ!
ودون أن تحفل بأن تكون على مرأى من الجميع مُدانةً وضالّةً، تأتي إليه في مأواه كلّ مساء أكثر اهتياجًا ولهفةً على الدوام، تهوي في أحضانه، وتعانقه بولهٍ، وتخور قواها في قُبلاتٍ محمومة تضايقه بعنفٍ، حتى قال لها بصوت ضَجِرٍ:
ـ عجبًا! كوني رشيدة عاقلة!
فتجيبه: إنّي أحبُّكَ.
وتجثو على ركبتيها تتأمله مليًّا في وضعية خشوع وعبادة.
في النهاية اغتاظ من هذه النظرة العنيدة فأراد أن يُنهضها قائلًا:
ـ هيا، اجلسي لنتحدّث.
كانت تهمسُ: كلّا، دعني!
وتبقى هكذا بروحٍ مُنجذبة.

قال لصديقه إينرسل:
ـ هل تعلم؟ سأضربها، لم أعد بحاجة للمزيد..لا بد أن ينتهي كل هذا العبث في الحال.
ثمّ أردفَ متسائلًا:
ـ بماذا تنصحني يا صديقي؟
فأجابه مقتضبًا: اقطع علاقتك بها.
لكن رينولدي أضافَ هازًّا كتفيه:
ـ أنت تتكلّم باستهانة! هل تصدّق بأنه من اليسير أن تقطع علاقتكَ بامرأة ضحّتْ من أجلكَ بكل شيء نفيس، وتعذّبكَ بمودتها ولطفها، وترهقك بحنانها، وشغلها الشاغل أن ترضيكَ، وخطؤها الفريد أنها تمنحك نفسها رغمًا عنك؟!

لكن ذات صباح علموا أن الحامية العسكرية ستغيّرُ موقعها، فأخذ رينولدي يرقص فرحًا، لقد فاز بالخلاص، نجا دون مشاحنات ولا صرخات، تمّ إنقاذه. لم يعد بحاجة إلا لشهرين من التجلّد وينجو…
لكنها دخلت عليه مساءً أكثر اهتياجًا عن المعتاد، وقد علمت بالنبأ العظيم، ودون أن تخلع
قلنسوتها أمسكت يديه وضغطت عليهما بعصبيّة وعيناها في عينيه، وبصوت متهدج قالت بعزم:
ـ سترحل قريبًا، لقد علمتُ.. لقد انكسرت روحي في البداية، ثمّ أدركتُ ما علَىّ فعله؛ لم أعدْ متردّدة، وقد جئت لأمنحك أعظم تجربة حبّ يمكن أن تقدمها امرأة: سأرافقكَ وأتبعكَ! لأجلكَ سأهجر زوجي وطفلتَىّ وعائلتي، لقد فقدتُ نفسي وضللتُ؛ لكنني سعيدة. ويبدو لي أنني أمنحكَ نفسي مجدّدًا. إنها تضحيتي العظمى والأخيرة، سأكون لكَ إلى الأبد!
نضحَ عرقٌ باردٌ على ظهره، وأَسَره غضبٌ أبكم عنيف، وسخطٌ واهنٌ؛ مع ذلك استعاد رباطة جأشه، وحدّثها بنغمة لامبالية ولطيفة رافضًا تضحيتها،ومحاولًا تهدئتها وإعادتها إلى صوابها،
بأن يجعلها تدرك مقدار شططها.
أنصتت إليه مُتطلّعة في وجهه بعينيها السوداوين وشفتيها المُستخِفّتين دون أن تمنحه ردًّا. وحينما أنهى كلامه، قالت له باختصار:
ـ هل أنت جبان؟! هل أنت من أولئك الذين يفتنون امرأة ثمّ يهجرونها من أول نزوة؟!

شحب وجهه، وبدأ يفكّر موضحًا لها العواقب الوخيمة لمثل هذا الفعل حتى الموت؛ لأن حياتهما ستتحطّم، ويضحى المجتمع مُغلقًا في وجهيهما…
لكنها ردَّت عليه بعناد:
ـ لا يهمُّ طالما نحن مُتحابانِ.
حينئذٍ انفجر في وجهها صارخًا:
ـ كلا! لا أريد هذا بالتأكيد، هل تسمعينني؟ لا أريد… وأمنعكِ من ارتكاب مثل هذه الحماقة!
ثمّ استحوذ عليه حقده الدفين المديد، فأفرغ قلبه صائحًا:
ـ عليكِ اللعنة! يكفي أنكٌ تحبينني رغمًا عنّي، لم ينقصني إلا أنك تصحبينني.. شكرًا.. لا أريد!
لم تجبه بشيء، لكن وجهها الكابي تشنّجَ تشنجًا بطيئًا ومؤلمًا كما لو كانت أعصابها وعضلاتها قد التوتْ، ثمّ رحلت دون أن تودّعه.

وفي نفس الليلة تناولت سُمًّا، واعتقدوا أنها ستقضي نحبها خلال ثمانية أيام.
وأصبحت حديث النميمة في المدينة، كان هناك مِن الناس مَن يرثى لحالها، ويعذر خطأها بفضل عشقها العنيف؛ لأن المشاعر المتطرفة تضحى حدّتها فعلًا بطوليًّا يتمّ الصفحُ دومًا عن المُدانين بها.
كما أن امرأة تنتحر بسبب هذه المشاعر، لا يُقالُ عنها عاهرة، وحدث نوع من الاستياء العامّ ضد الملازم أول رينولدي الذي رفض العودة لرؤيتها، ووقع شعور إجماعي للومه والاستنكار من موقفه.
كان يُقالُ بأنه هجرها وخانها وقتلها، حتى أن قائده العسكري قد أَسَرته الشفقة عليها، فحدّث الضابط عنها بالإيماء، وذهب پول دينرسل يبحث عن صديقه وعنّفه موبّخًا:
ـ عليكَ اللعنة يا عزيزي! ليس من شيم الكرام أن تدعَ امرأةً تموت!
لكن رينولدي اغتاظ، وأمر صديقه بالصمت حينما أصدر عليه حكمًا بالفضيحة، حتى تصارعا، وجُرِح رينولدي كترضية عامّة، ولزم الفراش مدّة طويلة.
حينما علمت زاد حبّها له معتقدة أنه تشاجر من أجلها؛ لكنها لم تستطع مغادرة غرفتها، ولم ترهُ قبل رحيل الفيلق العسكري.
وبعد أن استقر في «ليل» ثلاثة شهور، جاءته ذات صباح زيارة من شابّة، هي أخت عشيقته القديمة.
فبعد معاناة طويلة، لم تستطع مدام پوانسو التغلب على خيبة أملها، وأوشكت على الموت؛ إذ كانت مريضةً، ولا رجاء في شفائها، وأرادت رؤيته ولو لدقيقة واحدة قبل أن تُغمِض عينيها إلى الأبد.
وبما أن الفراق والزمن قد لطّفا من نفور وغضب الشاب، أثارته الشفقة عليها حتّى بكى ورحل إلى مدينة الهافر لأجل رؤيتها.
كانت على وشك الإحتضار، وتركوهما معًا بمفردهما، وطغت عليه على فراش هذه المحتضرة التي قتلها رغمًا عنه نوبة غمّ وحزن شديدة. انتحبَ وقبّل شفتيها الرقيقتين الهائمتين، وقال لها مُتلعثمًا:
ـ لا.. لا.. لن تموتي، ستشفين، ونظلّ عاشقين إلى الأبد!
همستْ: هل حقًّا تحبني؟!
ومن فرط حزنه وكأبته أقسم لها واعدًا بأن ينتظر حتى تسترد عافيتها، ورقّ قلبه بشدّة ضاغطا على اليدين بالغتي النحافة للمرأة المسكينة التي كان يدقّ قلبها دقّات غير منتظمة.
وفي اليوم التالي، استعادت عافيتها.
بعد ستة أسابيع لحقت به شائخةً تماما وضائعةَ الملامح؛ لكنها ما زالت معشوقة أكثر.
استعادها ولهانًا، لكن لأنهما كانا يعيشان معا مثل المتزوجين وفقا للقانون، فإن نفس القائد العسكري الذي كان ساخطًا من هجرانه لها، غضب غضبًا شديدًا ضد هذه العلاقة غير الشرعية التي تتنافى مع النموذج الأمثل الذي يتوجّب على الضباط داخل فيلق عسكري.
فنبه تابعه في البداية ثمّ عاقبه بشدّة، مما دفع رينولدي إلى تقديم استقالته.
ثمّ ذهبا للعيش في ڤيلا على شاطيء المتوسّط، وهو البحر التقليدي للعشّاق.
ومضت ثلاث سنوات رزخ خلالها رينولدي في أغلال العشق مقهورًا معتادًا على هذا الحنان المستمر، وقد ابيضّت بعض شعيرات رأسها.
حسب نفسه مشرفا على الموت غرقًا، حيث أصبح محرومًا الآن من كل أمل، وكل سبيل للرغبة والمرح.
والحالة هذه، استلم ذات صباح بطاقة مكتوب عليها:«جوزيف پوانسو ـ مالك بواخر ـ الهاڤر».
إنه الزوج! الزوج الذي لم يجد شيئًا ليقوله مدركا بأن على المرء ألّا يقاوم مثل هذا العناد النسائي القانط. فماذا كان يبغي؟!
ها هو ينتظرُ في حديقة الڤيلا رافضًا الدخول. حيّا بأدب دون أن يجلس على أحد مقاعد الممر، وأخذ يحدّث رينولدي بصراحة وبطءٍ قائلًا:
ـ سيدي! لم أحضر إليك كي أوجه لسيادتك لومًا ولا عتابًا، حيث أنني أعلم جيدًا كيف سارت الأمور. لقد عانيت، بل عانينا جميعا من..من أحد ضروب اللعنة؛ لكنني لم أكن لأضايق حضرتك في خلوتك،لولا تغيّر الأمور.
إن لي ابنتين يا سيدي، الكبرى أحبّت شابًّا، وهو يحبّها أيضًا؛ لكن أسرة العريس تعارض الزيجة متذرّعةً بموقف… أم ابنتي.
أنا لستُ غاضبًا ولا ناقمًا؛ لكنني أعشق ابنتَىَّ.
سيدي، لهذا السبب جئت أستردُّ منك.. زو.. زوجتي. لدىّ أملٌ اليوم في أنها ستوافق على العودة إلى بيتي.. أقصدُ بيتها.
بالنسبة لي، سوف أتظاهر بالنسيان من أجل.. من أجل فتاتَىَّ.
أحسّ رينولدي بضربة عنيفة تخترق قلبه، وكان غارقًا في هذيان من الفرح مثل مُدانٍ حصل على براءته. فردّ متلعثمًا:
ـ بالتأكيد يا سيدي! لديك كل الحقّ دون شكّ، وهذا عينُ العقل.
وكانت لديه رغبة في أن يصافح ويشدَّ على يد هذا الرجل، بل يعانقه ويقبّل خديه؛ لكنه أردفَ قائلًا:
ـ فلتدخل إذن يا سيدي! من الأفضل أن تدخل قاعة الاستقبال، سوف أحضرها لكَ.
فلم يتردد السيد پوانسو هذه المرّة في الدخول والجلوس.
ارتقى رينولدي الدرجَ قفزًا، ثمّ وقف هادئًا على باب عشيقته،ثمّ دخل في وقار قائلًا:
ـ هناكَ من يطلب مقابلتك بالأسفل بخصوص ابنتيكِ!
انتصبت متسائلة:
ـ بخصوص ابنتىَّ؟! ماذا.. ماذا حدث لهما؟ هل ماتتا؟!
فأجابها: لا.. لكن يوجد خطبٌ جلل، لن يفكَّ عقدتُه إلا أنتِ…
لم تنصتْ للمزيد،وهبطت الدرج مسرعةً.
حينئذٍ خارَ على كرسيه مُزعزَعًا ينتظرُ.
انتظر طويلًا طويلًا ثمّ كانت تصعدُ حتى موضعه عبر السقف أصوات ساخطة، فاتّخذ قراره بالهبوط.
كانت مدام بوانسو واقفة مغتاظة على وشك الخروج، في حين كان الزوج يمسكها من ثوبها مُكرّرًا:
ـ لكن فلتدركي سيادتك جيدا.. بأنك بذلك تفقدين ابنتينا، ابنتيكِ، طفلتينا وتضيعينهما!
فردّت عليه بعنادٍ:
ـ لن أعود إلى بيت حضرتك.
فهم رينولدي كل شيء، فاقترب خائر القوى، وقال متلجلجًا:
ـ ماذا؟ هل ترفضينَ العودة؟!
فالتفتت نحوه، وقالت دون أن ترفع الكلفة بينهما كنوع من الاحتشام في حضور الزوج الشرعيّ:
ـ هل تعلم سيادتك ما يطلبه منّي؟ إنه يريدني أن أعود للعيش تحت سقف بيته!
ثم قهقهت هازئةً في احتقار شديد لهذا الرجل الذي يبدو جاثيًا يتوسّل إليها.
حينيذٍ شرع رينولدي في الحديث بعزم يائس يلعب دوره الأخير، مُترافعًا لصالح قضية الفتاتين البائستين، وقضية الزوج، بل وقضيته هو نفسه. وحينما توقّف باحثًا عن أية حُجّة جديدة، فإن السيد پوانسو الذي أعيته الحيل، همس لها متودّدًا مُستعينًا بعادته القديمة في مداعبتها وتدليلها:
ـ هيا! يا «ديلفين»، فكّري في ابنتيكِ!
فإذا بها تغطي الاثنين بنظرة احتقار تامٍّ، ثمّ توارت مندفعة نحو الدرج بعد أن صرخت في وجهيهما قائلةً:
ـ يا لكما من بائسين!
ظلّا بمفردهما، وقد شعر كلاهما بنفس القدر من الهزيمة والألم، التقط السيد پوانسو قبعته الساقطة على مقربةٍ منه، ونفضَ بيده التراب العالق على ركبتيه المبيضّتينِ من أثر الأرضية المُترِبة، ثمّ بحركة يائڛة حيّا رينولدي الذي يرافقه حتى الباب قائلًا:
ـ نحن – بالفعل- بائسان يا سيدي!
ثمَّ رحلَ بخطًى مِثقَلةٍ.

—-•—–••—-••••••–•–
تمّت الترجمة بحمد الله
الخميس 2024/10/19

اقرأ باقي العدد ١٧

زر الذهاب إلى الأعلى