قد تأتي أمي …. قصة بقلم أحمد فؤاد الهادي


قد تأتي أمي …. قصة بقلم أحمد فؤاد الهادي

تعال معي لنفر من هذا الواقع القميء، سأصحبك إلى حيث كانت الحياة ذات مذاق ولون ورائحة، هيا بنا لأطلعك على البيت الذي فيه نشأت لعلك تستنج سر الوجوم الذي تراني فيه معظم الوقت.
لا تحمل للطريق هما، فالمسافة إلى هناك بلغ طولها خمسة وسبعون عاما ولكننا سنقطعها جلوسا في دقائق معدودة، فلتعد خيالك لتمضي مع خيالي حتى نبلغ المكان… هيا نبدأ:
هذا هو الشارع الرئيس في بلدتنا، إنه شارع الجيش، الطريق الوحيد المسفلت والذي يقطع البلدة من مدخلها الغربي حيث طريق مصر الإسكندرية السريع وطريق القناطر الخيرية، ويمتد شرقا ليصلها بعدة قرى حتى يلتقي بطريق الاسماعيلية الزراعي (طريق المعاهدة)
نحن متجهون شرقا، هذه ترعة النحاس تقطع الطريق من الجنوب إلى الشمال، أنظر جمال الماء الساري وصفاءه وجمال شجرات الصفصاف العتيقة المنتشرة بطول الشاطئ وقد انحنت كلها ناحية الترعة وكأنها تطمع في لثمها وقد تدلت أغصانها حتى وصلت إلى سطح الماء.. انظر كيف يحاول التيار أن يصحبها في رحلته فلا يستطيع.. إنه يكتفي بمداعبتها فتتبسم.. إنني ألمح بسمتها.. هل تراها؟
هيا.. سننعطف يسارا لنسير بمحاذاة الترعة، كما ترى.. الطريق ترابي جميل.. وهذا الرجل الجالس على حافة الترعة.. انظر كيف يدير الطنبور … نعم إنه الطنبور.. يرفع الماء من الترعة ليروي تلك الحديقة على يسارك.
البيوت على يسارك كما ترى.. ذات أحواش متسعة ولا حوش يخلو من شجر المانجو أو التوت أو الكافور أو الجذوريين، كلها محاطة بشجيرات الصفصاف المزهر، وبعضها يحوي تكعيبة عنب.
لا تسألني عن أعمدة الإنارة، فلا كهرباء عندنا في الشوارع ولا حتى في البيوت، أراك وقد سرقك مني جمال الترعة وروعة الأشجار … انظر.. لقد اقتربنا من شارعنا المتعامد على الترعة تزين مدخله عن اليمين وعن الشمال شجرتا توت، سنتذوق ثمارهما حالا… فالصبية يتسلقونهما ويهزون الأفرع فيتساقط التوت فيتلقفه أقرانهم على الأرض.. هيا.. لنشاركهم.
أرأيت شارعنا؟ كم هو هادئ ونظيف.. هل تشم رائحة الخيرات المنبعثة منه؟ أرأيت كم هي الوجوه طيبة هنا؟ وتلك السعادة الطاغية التي تكتنف الأطفال وهم يلهون بألعابهم التي صنعوها بأيديهم من علب الكارتون وأغطية زجاجات البيبسي والورق المفضض من علب السجائر ومن الجريد والعصي وعلب السلامون الفارغة… هنا لن تسمع ألفاظا نابية.. حتى المشاحنات بين الصبية مشاحنات مهذبة.
انظر.. البيوت كلها أبوابها مفتوحة.. يمكنني الدخول لأي منها وتناول الطعام والشراب تماما كما أفعل في بيتنا.. لا تندهش.. فكلها تصرفات فطرية لم يعلمهم إياها أو يفرضها عليهم أحد.
هذا بيتنا على يسارك.. ولكن دعني أصحبك إلى آخر الشارع حيث يسده سور الحديقة الذي رأيت الرجل يرويها بالطنبور هناك قرب الأسفلت، إنها حديقة موالح شاسعة.
تشم الآن ترك الرائحة العاطنة، إنها من منبعثة من كومة الطين تلك، إنها “المخمرة”، طين معجون مع التبن ويترك حتى يتخمر (يتعطن) فتكون له تلك الرائحة.. إنها مخمرة الرجل الذي اشترى هذا النصف قيراط على يمينك.. سيقوم بضرب قوالب الطوب اللبن بقالبه الخشبي فتصير كتلك المصفوفة هناك … إنه يبني بيته بنفسه ودون أي مساعدة من أحد.
هيا تفضل بالدخول … تلك هي الصالة.. لا أثاث فيها.. حصر ممدودة ومساند مصفوفة.. غرفتان على جانبيها.. تلك التي على اليسار هي غرفتي التي كنت أذاكر فيها، فإذا كانت إجازة الصيف تحولت إلى مرسم ويبرز حامل اللوحات والمقعد ويصدح صوت الراديو، وإذا جاء الربيع تحولت إلى مستودع لعدة كراتين لتربية دود الحرير.
لا تخف منه.. اسمه ركس.. كلب طيب يحبنا جميعا كباقي أقرانه الذين سوف تراهم حالا: عبلة وجولدا ونوشكا، أبي يهتم بهم جدا.. سؤاله الأول عند دخوله البيت: هل أطعمتم الكلاب؟
تعال.. سندخل من هذا الباب.. إنه باب الوسط.. يفصل الصالة عن باقي البيت، في الحوش الكبير ترى البط والوز والدجاج والأرانب والكلاب طبعا.. انظر كيف يلهو هذا التيس الصغير.. نعم إنه الجدي.. اسمه سعد وتلك امه رتيبة.
أرأيت جمال الصفصاف بزهوره الرقيقة البسيطة الحمراء والبيضاء؟
تلك التي على يمينك هي أكبر غرف المنزل.. إنها “الأوضة الكبيرة” كما نسميها.. مظلمة لا منفذ لها سوى تلك النافذة على الحوش الداخلي والتي لا تكفي لإضائة مساحتها الكبيرة.. هي كمخزن للكراكيب فحسب، أما الغرفة في مواجهتها فهي للنوم.
لننعطف يسارا ونستمر في هذا الممشى الطويل.. هذا هو الفرن الذي نخبز فيه خبزنا ملاصق للغرفة الخامسة التي نسميها “أوضة العيش” انظر ماذا بها: هذه ذره وهذا قمح وهذه القدر “البوشة” بها دهن للتقلية، وتلك القدور بها السمن البلدي، وهذا البلاص عامر بالعسل الأسود أما هذا فهو للمش والجبنة القديمة.. وتلك المشنات المعلقة تحمل الخبز بنوعيه: الملدن والمرفوعي، تعلقه أمي بالسقف لحمايته من الفئران.
هيا لنصعد إلى سطح البيت.. كن حريصا فالسلم لا سياج له ولكن درجاته من الحجر الجيري المتين … ما رأيك بالمنظر هنا؟
كلها بيوت من طابق واحد.. رؤية مفتوحة للكون أرضا وسماء..
شجرتا توت من بيت جيراننا تنحنيان على سطح بيتنا.. يمكنك تناول ثمارهما بسهولة.. أتعرف ما هذا؟ إنه حطب القطن والذي هناك حطب الذرة “الحطب الشامي” هما وقود فرن الخبيز.
فتش هنا في انحاء السطح واجمع بيض الدجاج.. أدهشتني.. لقد اكتشفته قبل أن أنبهك.. فلنعود إذن للحوش … آه انظر هذا الصغير الذي أغفلناه.. إنه الكانون تطهو أمي عليه عندما تكون لدينا ذبيحة أو ضيوفا.. وله لوح دائري من الصاج لتسخين الخبز.
إنك تشم عبق المكان بالتأكيد.. أمي عندما تطبخ تطغى ريح طبيخها على كل ذلك .. حتى يخيل إلى أن الكون قد فرغ إلا من أمي وطبيخها.
عفوا صديقي.. فلن أعود معك.. فحرر خيال وعد أنت.. سأبقى هنا.. فقد تأتي أمي.