صورة من الزمن الجميل … نص نثري بقلم بوعون العيد- الجزائر

هناك بتلك الهضبة غير المرتفعة كثيرا كانت البدايات من ذاك الريف القاسي معقل الأسود ومنبع الثّوار ، هناك حيث القساوة والجلد ، ومغالبة المتاعب والأرزاء ، من ذاك البيت العتيق المتهالك عتاقة وقدما ؛ رحلة طفولة ترويها جدرانه ، ويؤرخها سقفه المتٱكل ، ومدخنته تحكي أنفاس عائلة مزجت بلعلعات الطّبيعة ،وزمجرتها المخيفة ، وفي ليالي الشتاء الباردة قليلا ما تصفو السّماء ، وتأخذ الطّبيعة سِنة نوم ،فيبرز القمر المنير من وراء الغيوم يُضارع حسناء تطلُ من نافذة منزلها ، وتتراقص النّجوم طربا وهي متلألئة كالجُمان ، وتتدفّق أضواؤها تبدّد ظلمة كرى الليل لكأنها عين ثرّة ثجاجة،أو تنّور مسجور لتعطي فسحة لساكني البيت أنها ليلة هانئة ،وليست ليلة ليلاء ، فيطمئن الكل لذلك ، ويبيتون معانقين دفء الأسرة ، وما يرسله الكانون من بقايا دفء الجمر ، وما إن يبزغ الفجر ليعلن عن ميلاد يوم جديد من رحم الليل حتّى تزدان الطّبيعة ،وتكتسي برداء أبيض يغطي سفوح الجبال ، ويغمر البطاح والأودية ، ويكسو سهلها ووعرها وعامرهاوغامرها، وتتوشح أبواب البيوت بوشاح أبيض .وتسكن حركة الأحياء ، ويتحول عالمهم إلى عالم خرابا وكونايبابا ، فلا يتحرك شجر ، ولا ينطق إنسان ، ولا يَبغمُ حيوان .ثمّةيتعمّم الرجال وتتلفّح ربّات البيوت ويتأزرن ويربطن نطاق الحزم والعزم تحديا ومجابهة وتحدّد المهمات ، وتُقسّم الأدوار ، وتشترك أحيانا بين الزريبة والإسطبل وخمّ الدجاج ، ووِجار الكلب. بعدها تعمد الحرائر إلى إضرام النّار (الشيميني ) من الحطب ، وبعض الوَبيلةثمّ يُحضّرن الفطور. لقد كانت أياما حُبلى بالمرح والمسرات رغم كلّ الٱلام ،لأنها تجمع الأسرة تحت سقف واحد ، ومائدة واحدة ، تلك المائدة التي تُدخل سعة الرزق والبركة ، وتلك اللّمة المتدفقة حُنوا وصفاء سريرة ، وطهارة نفوس ، وصفاء قلوب ، فقصعة الكسكسي هي سيّدة المائدة يلتفّ حولها الصغير والكبير ، وكثيرا ما تتبادل الأدوار على الملعقة في تناول الطعام ، والتجمع حول الكانون ،وفوقه إبريق الشّاي ، فتارة ينظر الأطفال إلى النّار الملتهبة ،وطورا إلى وجه الأمّ المفعم بالحيوية والنشاط ، وعلى وقع زخات المطر المتردّد صوته على مدخل البيت المنسدل عليه ستار يردّ ويصدّ بعضا من غضب الطبيعة! ، و ما يتقاطر من السّقف،حينها تقف الأم مسرعة لتضع له إناء تتجمع فيه، ويخرج الأب بين الفينة والفينة يرقب مواشيه، وهي في مرابضها تقضم العلف.
في ذاك البيت الذي لاتتعدّى مساحته الأربعة أمتار مربعة يأوي عددا من الأفراد لايقلّ عن العشرة ، دونما ضجر ولا
قلق ،ولاصخب ولاجلبة. هناك نمت مشاعر الأخوة الصادقة ، وصُقلت معاني الرّجولة الحقّة ، ومبادىء التّربية السّمحة ، وجُبل الأبناء على تحمّل المسؤولية ، وشظف العيش، وأهوال الحياة ، وفهم معنى الشهامة والإباء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى