“صمت الحملان” …. قصة قصيرة بقلم / أحمد رأفت


“صمت الحملان” …. قصة قصيرة بقلم / أحمد رأفت

سار في الطرقات تحتضن خطواته الأرض حضنا باهتا لا حياة فيه، لا يجد ما يتكئ عليه سوى شيبة أنهتكتها الأيام، وقلب تصدع من هول ما سمعه ورآه..
سقطت الأقنعة أمام عينيه فجأة، وبدا الزيف جليا بلا سابق إنذار، لم يكن يدري رغم سنينه التي صقلتها التجارب أن هذه الوجوه الباسمة، والقلوب الحانية تخفي وراءها مكر الثعالب وطبائع الذئاب .. وأن من يعترض طريقهم حتى وإن كان من أصحاب الضمائر فسيغدو فريسة سائغة في أفواههم.
مادت الأرض تحت قدميه المثقلتين بالهموم، كاد أن يسقط لولا أحد المارين الذي أسرع إليه وأسنده ثم أجلسه على الرصيف؛ ليلتقط أنفاسه..
نظر إليه نظرة حانية ملؤها الشكر والامتنان، ثم أشار إليه إشارة واهية تعني أنه بخير، سيجلس هنيهة ثم يعاود السير في طريقه ..
على قارعة الطريق تلاحقت المشاهد المستعرة أمام عينيه .. ضباع مفترسة تنهش فيه بلا رحمة ودونما شفقة، وهو عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه، جف ريقه والتصق لسانه في حلقه، ولاذ بصمت يشبه صمت الحملان.. فيض من الأسئلة انسالت عليه ، دون أن يجد لها إجابة في نفسه ..
- كيف للحمل الوديع أن تنبت لها أنيابا يدفع بها الخطر المحدق به؟!
- إلى متى سيظل إنسانا في عالم يحكمه قانون الغاب ؟!
- هل من الطبيعي ألا يفطن مثله لمثل مكرهم؟!
كان بمقدوره أن يستمر في القتال معهم دفاعا عن شرفه لكنه سيخسر نفسه التي جُبلت على الفطرة .. سيدخل معركة لا طائل من ورائها، فقط ليثبت لغيره من الناس أنه قوي .. أنه لم يخسر ..
كان بوسعه أن يهتك سترهم، أن ينزع عنهم أوراق التوت التي تستر عوراتهم، أن يفضح خباياهم وجرائمهم وتجاوزاتهم في حق المؤسسة، لكنه أبى أن يفعل ذلك ، أبى إلا أن يكون حملا وديعا حتى لا يخسر وداعته وسلامه واحترامه لذاته.
ليس من طبيعته أن تكون له مخالب.. لن تغفل له عين إذا كان سببا في إيذاء أحد، حتى وإن كان يستحق الإيذاء، لذا عليه أن يتحلى بفطرته حتى ولو كان ذلك على حساب نفسه ..
على الحمل أن يبقى حملا بفطرته النقية، بوداعته التي جُبل عليها منذ الأزل، إذا ذكر اسمه ذكرت معه كل معاني الطيبة والإنسانية.
من طبائع الوحوش أن تحاور وتناور وتتربص حتى تظفر بفرائسها وتفتك بها أما الحملان فتأكل أعشابها بسلام ولا تعبأ بما يحاك لها في أستار الظلام .. لا تعبأ بالنهايات ..
ترامى إلى أذنيه صوت أتى من الحانوت القريب منه، يتلو آيات من سورة “يوسف” كان فيه البشارة والملاذ من هذا التيه.. تدبر الآيات وفكر مليا : - لماذا لم يدفع يوسف الصديق غدر زليخة ومن معها من النسوة ؟! ..
- لماذا لم يهتك سترهن أمام الناس ورفاق السجن ؟!
- لماذا لم يشمت في إخوته الذين كادوا له ؟!
كل ما كان منهم لم يمنعه من الإحسان إليهم وإلى الناس .. تحلى يوسف الصديق بالتغافل والتغاضي وأكمل بطبيعته النورانية حتى قضى الله له النصر، فخرج من سجنه عزيزا لمصر .. نظر جميع من ظلمه في مرآة أنفسهم وأدركوا أنه على كان حق .. وأن الله لا يفلح كيد الظالمين..
ارتسمت على وجه الحمل العجوز ابتسامة رضا حين تذكر حكم الله في الخلق :
” إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين”
تمت