شريطة … قصة قصيرة بقلم حسين الجندي

أمسك قلمه وأخذ يكتب قصته المتعثرة..
أخيرا انتهى منها،تسارعت أنفاسه،لم يطق صبرا، سارع بالاتصال به،تواعدا على الالتقاء بعد ساعة؛لقد أراد أن يستعيد ثقته بنفسه أمام هذا اللحَّاد،كان يدرك أن انتزاع استحسانه ولو كان في حكم المستحيل أمر يريده، حتى ولو كانت فيه نهايته ككاتب..

أخذ يقرأ عليه:
(صرخت،جرى إليها،أمسكت بتلابيبه حتى أوشك على الاختناق، سقطت أرضا ووجهها يحاكي صفرة الجادي،حاول إنعاش قلبها،فلم يفلح،حملهاملتاعا،وضعها على السرير،لاحظ سائلا يشبه الماء يتسرب من بين رجليها،أعقبه نزيف حاد..
عشرة أيام مضت عليها في المشفى وكأنها الدهر،غيبوبة كاملة،نسي فيها آخر مرة تناول فيها طعاما،الوهن والقهر والاكتئاب رفقاؤه،اسودَّت الدنيا أمام ناظريه،لقد صممت على مواصلة الحفاظ عليه برغم تحذيرات الطبيب،لم يكن يملك رفاهية الاختيار مع هذا التصميم..

مضى شهران وهي مازالت فاقدة الوعي،نام تحت قدميها علها تستفيق فيكون هو أول من يقع نظرها عليه..

أربعة أشهر مرت؛نقلوها إلى المنزل فلا أمل..
أجهزة إعاشة ومحاليل ومتابعة سريرية روتينية..
ولا أمل..

رحمةً بها يجب نزع الأجهزة عنها:
هكذا قال الأطباء..

قاطَعه أستاذه بعد أن وصل إلى تلك النقطة:

  • وطبعا هتحصل المعجزة وهتقوم زي الحصان وكأن شيئا ما كان!
    اسكريبت محروق مستهلك،أنا عاوز فكرة جديدة بكر طازة..
  • طب أكمل لحضرتك القصة..
  • يعني هتعمل إيه جديد،هَتِتْشَل مثلا ولا هتموت ويكتشف خيانتها ويلعن كل لحظة حَزِنَ فيها عليها أو أي دمعة ذرفها في حبها؟!
  • يا أستاذي تمهَّل وأعطني فرصة..
  • كمِّل يا سيدي..

(استيقظ من النوم وأخذ…)
قاطعه أستاذه ساخرا:

  • هههه وطبعا وجد نفسه كان بيحلم ومراته جنبه زي الفل،تيمة مستهلكة مهروسة محروقة…
  • لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
    طيب أنا قلت ذلك؟!
    اتركني أكمل أرجوك أبوس إيدك ورجلك..
    ثم غمغم في حنق:
    والله قصصك هي اللِّي محروقة ومكرورة ومهروسة وعاملة زي الطبيخ البايت..

ً- هِهْ ما تكمِّل يا أديب.. وبعدين أنت بتقول إيه في سِرِّك؟!

  • هِهْ ولا حاجة كنت بتنحنح بس علشان أكمل لك:
    (استيقظ من النوم وأخذ يبحث عن زوجته لتعد له الإفطار فلم يجدها في أي مكان بالبيت!
    اتصل على هاتفها وجده خارج الخدمة..
    كرر المحاولة ولكن لا فائدة..
    دخل ليأخذ حماما ويستعد للعمل، عندما عاد إلى غرفة النوم وجد صورة زوجته على الحائط وقد مالت على أحد أركانها،
    نزل من على الكرسي بعد انتهائه من تعديل وضعها،وأخذ يحملق فيها،
    حقيقي صورة جميلة للغاية وهي في أوج ألقها وشبابها..
    رجع بذاكرته أربعين عاما حتى توقف تحديدا عند اللحظة التي الْتُقِطَت فيها هذه الصورة..
    نعم نعم يتذكرها وكأنها اليوم..
    عدسة معوض أفندي كانت الأشهر في الحي..
    ولاغرو فقد كان مصور الفنانين..
    لقد أخذها بعد جلسة التصوير وتجوَّلا على كورنيش النيل وتناولا (كوزين) من الذرة المشوي وبعض حبات من البطاطا المعسلة..
    وجد ابتسامته تملأ مُحَيَّاه عندما وصل إلى اللحظة التي لسع فيها (فحل) البطاطا لسانه فقذف به بحركة لا إرادية في النيل..
    لقد ضحكت عليه حتى وقعت على قفاها، لكنها سرعان ما أمسكت بيده تواسيه، شعر حينها كأنها أمه التي لم يرها..
    تمشيا حتى بلغ بهما التعب مبلغه، أخذ يبحث في جيوبه ثم لمعت عيناه بلمع تعرفه جيدا :
  • أنت ناوي على إيه؟ هِهْ قول لي، عارفة أنت عاوز تِفَرْتِك آخر جنيه معاك؟! مجنون…
    أومأ إليها مُؤَمِّنا على كلامها ولم يترك لها فرصة للاعتراض..
    ثوانٍ واصطحبها إلى فندق (سميراميس) والذي لا يفصله عن الكورنيش سوى عبور الطريق،طلب عشاءً لاثنين…

توقف بذكرياته عند لحظة الحساب..
أصابته غُصَّة،ولعن الفقر الذي أفسد ليلته..

حاول الاتصال بها ثانية وثالثة ورابعة فلم يجد ردا!
قذف بالهاتف على السرير ضجرا،وقبل انصرافه للعمل ألقى نظرة سريعة على نتيجة الحائط فوجد علامة مرسومة وتحتها عبارة مقتضبة:
(اليوم إنْ عاش وصل للمَعاش!)

ياله من يوم حزين، اليوم هو الأخير له في العمل قبل إحالته إلى المعاش..

رويدا رويدا بدأ يتذكر الحفل الذي ينتظره في العمل – حفل نهاية الخدمة-
دمعت عيناه، خفق قلبه، عاد ثانية إلى ذكرياته ولكن هذه المرة مع ابنه الوحيد..
تذكر يوم ولادته العسرة، ابن الشهر السابع،كل الأطباء وقتها لم يرجوا فيه الأمل،نسبة وفاته كبيرة..
هكذا قالوا..
لكنه عاش، صحيح لم يعش كثيرا،فقط عاما واحدا،نظر إليها مواسيا:
-ولكن لا يهم من رزقنا به بعد هذا العُمْر سيرزقنا بغيره،حقيقي لقد جاء بعد معاناة كبيرة وكدت تفقدين حياتك بسببه..

أفاق من ذكرياته هذه المرة..
عندما وقعت عيناه على شيءٍ ما على السرير جعله ينتحب..

شريطة سوداء سقطت من ركن الصورة!

ما رأيك أستاذي في السرد؟
والقفلة أليست مبتكرة؟!
لكنه لم يرد فقد رآه يقفز من مكانه ليتفقد زوجته التي لم ترد على هاتفه.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى