“سامي” قصة بقلم محمد كمال سالم


“سامي” قصة بقلم محمد كمال سالم

تَندَفِعُ (أُولْجا) مُذهولةً نَحوَ شاشَةِ التِّلْفازِ، تُفْرِكُ عَيْنَيْها غَيْرَ مُصَدِّقَةٍ ما تَراهُ، لَكِنْ سُرْعانَ ما مَرَّ الخَبَرُ إلى الَّذي يَليهِ…
ــ لا، مُستَحيلٌ ما رَأيتُ! لا يُمكِنُ أنْ يَكونَ هو!!
كُلُّ العَرَبِ مُتَشابِهونَ على كل حال، سَأَبحَثُ عَنِ الخَبَرِ في الميديا، سَأَجِدُهُ، أَحتاجُ أَنْ أُحَكِّمَ الصُّورَةَ بَيْنَ أَنامِلي.
ها هو الخَبَرُ، تِلْكَ صُورَةُ الشّابِّ مُرْتَكِبِ الجَريمَةِ. سَأُكَبِّرُها الآنَ عَلى وَجهِهِ… آآاااهٍ يَا رَبِّي مُسْتَحِيْلٌ! إنَّهُ هو… هو سام… سامي!
ــ لا، لا…
تَنْهَمِرُ دُموعُها، ويَعلو نَشيجُها بالبُكاءِ، وتَجتَرُّ قِصَّتَها مَعَهُ في ذاكِرَتِها.
ــ لا أُصَدِّقُ أَنَّهُ يَفْعَلُ هذا الفِعْلَ الشَّنِيعَ… إنَّهُ أَطيَبُ قَلْبٍ، وادِعٌ كَقِطٍّ لَطيفٍ. تَعَرَّفْتُ عَلَيهِ في رُوما عِندَ نافورَةِ (تريفي)، حَيثُ أَلقى عُملَتَهُ المَعْدَنِيَّةَ وتَمَنَّى فَتاتَهُ. كُنتُ أَنا أَوَّلَ مَنْ رَآها… وكَانَ هو أيضًا أَوَّلَ أُمْنِيّاتِي. شابٌّ إيطاليٌّ مُثَقَّفٌ، يَتَحَدَّثُ لُغاتٍ عِدَّةً، لَكِنَّهُ يَنحَدِرُ مِن أُصولٍ عَرَبِيَّةٍ. لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ فُضولٌ أَنْ أَعْرِفَ مِن أَيِّ بَلَدٍ يَنحَدِرُ.
تَرافَقْنا، ولَعِبْنا، وسَهَرْنا. ثُمَّ سافَرْنا إلى باريسَ حَيثُ كانَتْ مَحَطَّتِي الأَخِيرَةَ في جَولَتِي السِّياحيَّةِ، بَيْنما كانَ هو مُقيمًا في رُوما، لَكِنَّهُ آثَرَ أنْ يُرافِقَنِي لَمَّا تَعَلَّقَ بي وتَعَلَّقْتُ بِهِ. وانْسَجَمْنا أَكثَرَ في باريسَ، حَتَّى إِنَّهُ طَلَبَ مِنِّي الزَّواجَ.
ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَتَراجَعُ عَنْ طَلَبِهِ هذا عِندَما يَعرِفُ وِجهَتِي الأَخِيرَةَ. كُنتُ قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَمريكيَّةٌ، ولَمْ أَقُلْ لَهُ أَنَّ مَوطِنِي هو إِسرائيلُ، حَيثُ وُلِدتُ، وحَيثُ تَعيشُ أُسْرَتِي.
فَكانَتْ دَهشَتِي كَبيرةً عِندَما وَجَدتُهُ قَدْ تَلَقَّى هذِهِ المَعلُومَةَ بِكُلِّ هُدوءٍ وبِساطَةٍ، وكَأَنِّي قُلتُ لَهُ أَنِّي أَعيشُ مَثَلًا في دِمَشقَ أَوِ القاهِرَةِ. وبِالفِعْلِ، عادَ مَعِي إلى مَدينَتِي الرّاقِيَةِ المُجاوِرَةِ إلى تلّ أَبيب.
وفي نَفسِ أُسبوعِ وُصولِنا يَحدُثُ –للأسَفِ– هذا الهُجومُ الغاشِمُ مِن فِلسطينيِّي أَهْلِ غَزَّةَ عَلى مَدينَتِنا ومُدُنٍ مُجاوِرَةٍ. يَسْتاءُ سام جِدًّا ويَقولُ:
ــ نَسِيتُ أَنَّ هذِهِ المَنطِقَةَ مِنَ العالَمِ غَيْرُ آمِنةٍ.
كانَ أَبِي مُولَعًا بالسِّياسَةِ وَبِما يَحدُثُ في غَزَّةَ ورامَ اللهَ. يُبْقي التِّلْفازَ طِيلَةَ اليَومِ عَلى الأَخْبارِ، وكانَ هذا يُثيرُ الضِّيقَ عِندَ سام، فأَصطَحِبُهُ إلى الفِراندا أَو الحَديقَةِ. فَطِنْتُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ شابٍّ أُوروبِّيٍّ مُولَعٌ بِحَياتِهِ الشَّخصِيَّةِ وفَقَط.
لاحَظْتُ أَيْضًا أَنَّ اللُّغَةَ العِبريَّةَ لا تَستَهْويهِ، وأَنَّهُ غَيرُ مُنسَجِمٍ مَعَ أُسرَتِي، وأَصبَحَ مِزاجُهُ العامُّ كَدِرًا مُعظَمَ الوَقتِ.
الآنَ فَهِمتُ مَوقِفَهُ الغَريبَ، وأَنَّهُ لا يُشارِكُنِي فَرْحَتِي عِندَما كُنّا في سَهرَةٍ خارِجَ البَيْتِ، والتِّلْفازُ يَنقُلُ انْتِقامَ جَيشِنا –جَيشِ الدِّفاعِ– على أَهلِ غَزَّةَ “الإرهابيِّين”، وكيفَ كانَ يَهْدِمُ بُيوتَهُم فَوقَ رُؤوسِهِم وفيها نِساؤهُم وأَطفالُهُم، ويَقصِفُ مَدارِسَ الأُونروا، وهم يَختَبِئونَ فيها ويَستَخْدِمونَ المَدَنِيِّينَ دُروعًا بَشَرِيَّةً.
وعِندَما اشتبكَ مَعَ أَحدِ الشَّبابِ في المَقهى اللَّيْليِّ، لَمّا سَمِعَهُ يَسُبُّ العَرَبَ ويَتَوَعَّدُ بِزَوالِهِم مِنَ الدُّنيا، كانَ ذلِكَ غَريبًا عَلَيَّ.
(ما زالَتْ أُولجا تَستَرجِعُ تَرْتيبَ قِصَّتِها مَعَ هذا الشّابِّ المُقتولِ)
ــ غَريبٌ أَمرُ هذا الشّابِّ. أُحاوِلُ أَنْ أُفَكِّكَ شيفرَتَهُ ودائِمًا ما أَفْشَلُ.
القَناةُ الثّانِيَةَ عَشَرَ تَعرِضُ نتيجَةَ البَحْثِ عَنْ هذا الشّابِّ “الإرهابيِّ”، الّذي دَهَسَ وطَعَنَ أَكثَرَ مِن تِسعَةِ مُستَوطِنينَ. وأَنَّ مُنظَّمَةَ “فَتح” أَعلَنَتْ أَنَّهُ شابٌّ مِن أَولادِها، وكذلكَ مُنظَّمَةُ “حَماس” وكَتائِبُ القَسّامِ أيضًا. كُلُّهُم كانوا يُحاوِلونَ انتِسابَ ما يَدَّعونَ أَنَّهُ “شَرَفُ الاستِشهادِ” لأَنفُسِهِم.
وَأَنَّهُ مُجَرَّدُ شابٍّ إيطاليٍّ جاءَ إلى إِسرائيلَ سائِحًا. رُبَّما يَكونُ لَدَيهِ خَلَلٌ دِماغِيٌّ. وسَتَقومُ السُّلطاتُ الإسرائيليَّةُ والإيطاليَّةُ بِالتحقيقِ في مَلابِساتِ الجَريمَةِ.
كانَتْ أُولجا تُتابِعُ هذا الخَبَرَ، ورِجالُ البُوليسِ يَقِفونَ مَعَ والِدِها عِندَ البابِ… يَطلبونَها.