“رواية اجتماعية بنفس وطني لا يخفى، وحس قومي ” -قراءة في رواية  “إطلالة من ماسبيرو” للكاتبة داليا العطار بقلم الشاعر و الناقد و الإعلامي الكبير : السيد حسن

رواية “إطلالة من ماسبيرو” هي الرواية الثالثة للروائية المتميزة داليا العطار، صدرت بعد روايتيها “كشف حساب” و”حياة نور”. وفي هذه الرواية، تطل الروائية من إحدى شرفات مبنى الإذاعة والتليفزيون في ماسبيرو على التاريخ المصري القريب في أمجد لحظاته، حيث انتصار السادس من أكتوبر عام 1973، وتنسج أحداث روايتها من حيوات المحيطين بمبنى ماسبيرو، حيث يعود إليهم البطل “إبراهيم” الذي أحرز بطولات مذهلة في حرب أكتوبر المجيدة، وحاول أن يفدي كتيبته كلها بجسده، إلا أن الله سبحانه وتعالى شاء له أن يحيا ليرى الانتصار المجيد، بعد أن يقع في الأسر ثم يعود إلى أسرته التي احتسبته شهيدًا في سبيل الوطن.

والروائية ترسم مشهدًا مهيبًا لخبر تلقي أسرته نبأ استشهاده، قبل أن يتضح بعد ذلك بسنوات أنه كان أسيرًا، ولم يكن شهيدًا، فكأنه كان “الشهيد الحي”. تقول: “ترجل من السيارة مجموعة من المجندين، وهم يحملون كراتين مغلفة تحمل شعار النسر المصري، ومعهم ضابط شاب. ثم ظهروا على السطح، حيث تجلس السيدة. قام جميع الموجودين ليفسحوا المكان للضيوف الكرام، الذين جلسوا إلى جانب السيدة. ثم إنهم نصبوا صورة (بورتريه) بالألوان لشاب يلبس إكليلًا من الورود، وما إن فرغوا منها حتى بدأت السيدة تبكي. فتقدم إليها الضابط، وانحنى يقبل رأسها ويديها، ثم جلس بجانبها يتحدث إليها حتى هدأت، ثم انصرف مصطحبًا معه الجنود”.

هكذا رأت الطفلة الصغيرة المشهد وهي تطل من إحدى نوافذ مبنى ماسبيرو على سطح إحدى الحارات المحيطة به.

ترصد الرواية التحولات التي شهدتها مصر بعد انتصار السادس من أكتوبر، وما أعقبها من الاتجاه إلى سياسات الانفتاح الاقتصادي، ثم إطلاق مبادرة السلام المصرية التي تُوّجت بعقد اتفاقية كامب ديفيد، وأهم ما طرأ على حياة المصريين من تحولات، من خلال أسرة إبراهيم البطل، الذي حملت زوجته بـ”إبراهيم الصغير”، قبل أن يتوجه لتلبية نداء الوطن، لكنه تركها وسط أهل حارتها ذوي الشهامة والوفاء، وعلى رأسهم “إبراهيم الكبير”.

من جميل ما يطالعك على صفحات الرواية تلك المقارنة الفنية بين مفهوم “الثغرة” بمستواها العسكري، و”الثغرة” بمستواها الاجتماعي، حيث تؤكد الرواية أن أبطال مصر قد نجحوا في التصدي للثغرة التي حاولت سرقة انتصار السادس من أكتوبر دون جدوى، وكان على المجتمع المصري كله أن يتصدى للثغرات الاجتماعية التي تعرض لها المجتمع، وتجلّت في واحدة من صورها البشعة فيما تعرضت له أسرة البطل إبراهيم على يد “مسعد”، الذي تحوّل من عاطل أقرب إلى “البلطجي” إلى رجل أعمال يمتد نشاطه من بورسعيد إلى القاهرة، فيُلقي بظله الثقيل على الحارة كاملة، ليُحاصر “عفاف” زوجة “البطل إبراهيم” التي فشل في الوصول إليها من قبل.

تقول الروائية في وصف هذه المقارنة: “ليست التضحيات مقصورة على من رحلوا عن عالمنا فقط، إنما هناك آخرون قدموا لنا الكثير، تركوا بيوتهم لسنواتٍ عجاف، تكبدوا خلالها آلامًا وأوجاعًا، وتمنوا الرجوع للأهل والأحباب، لكنهم حين عادوا وجدوا أنهم ليسوا وحدهم من تعرّضوا للثغرة داخل صفوفهم، بل هناك ثغرة أخرى أصابت بيوتهم، فتمزّقت. وتلك الثغرة لم تكن من صنع الأعداء، بل كانت من صنع المعارف والجيران، شخصيات طفيلية سعت إلى تحقيق رغباتها المريضة، وكانت تتلوى كالحيات حتى تصل إلى أغراضها الدنيئة”.

ومن الملامح المثيرة في أحداث الرواية أيضًا، تلك المتعلقة بأبطال قد لا يعرفهم القارئ، ألقت عليهم الرواية الضوء لتكشف عن بطولات خفية في مسيرة هذا الشعب البطل. ومن هذه الشخصيات، شخصية الشهيد “موشي زكي رافي”، نعم، هذا هو الاسم الذي عُرف به طالب الهندسة الوطني “عمرو مصطفى طلبة” أو العميل 1001، الذي زرعته المخابرات المصرية في تل أبيب ليعمل بمكتب المراسلات العسكرية، الذي يقوم بإرسال واستقبال الرسائل من تل أبيب إلى الجبهة والعكس، والذي استُشهد في موقعه “تبة أم مرجم”، بعد أن رفض مغادرته رغم علمه بأنه قد تقرر تدميره، وذلك حرصًا على تزويد المخابرات المصرية بمزيد من المعلومات، حتى استُشهد.

كذلك، فإن الرواية تنحو في بعض فصولها منحًى تسجيليًا، بحيث تظهر فيها أحداث سياسية وشخصيات تاريخية بأفعالها وأقوالها، من بينها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، وهنري كيسنجر أشهر وزراء الخارجية الأمريكيين، وغيرهما من الشخصيات. بل إن الروائية لم تكتفِ بذلك، وإنما أوردت أجزاء من خطابات، ومحادثات، وحوارات، هي أقرب إلى التسجيل التاريخي منها إلى الخيال الروائي.

وبالطبع، فقد توقفت الرواية أمام الجدل المضطرم الذي أثاره خطاب السادات في مجلس الشعب، وأعلن فيه نيته الذهاب إلى قلب تل أبيب، وكيف أحدث هذا زلزالًا في الشارع المصري والعربي. تقول: “كانت ردود الأفعال متباينة بين جموع المصريين، مع اختلاف طبقاتهم التي لم تكن تتعدى الثلاث طبقات حينذاك: الأغنياء، الطبقة المتوسطة، والفقراء. لكن الجميع كانوا يُعبّرون عن وجهة نظرهم، كل بطريقته، وحسب ثقافته واهتماماته وانتماءاته الدينية، فمنهم من كان يُحرّم تلك الزيارة، ومنهم من كان يُباركها”.

والرواية لا تخلو من مشاهد الحركة السريعة والمغامرة (الأكشن)، لا سيما في فصلها الأخير الذي تتم فيه مطاردة “مسعد” قبل أن يستحوذ على “عفاف” فيما يشبه الاختطاف الأخلاقي، على الرغم من كونها زوجته بحكم القانون.

رواية اجتماعية بنفسٍ وطني لا يخفى، وحسٍّ قومي لا يمكن أن تخطئه العين، تأتي بعد روايتين كان الطابع النفسي هو السائد فيهما، وإن لم تتخليا عن الحس الاجتماعي العميق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى